الرئيسةدراسات/مقالات

يوتوبيا المواطنة وتحدّياتها.. في نشوء حقوق المواطنة ومسارها ومآلها / / / الأمين د.يوسف كفروني  

في الدولة القومية تسود المساواة بين المواطنين، بينما تسود علاقات التبعية في الأنظمة الإمبراطورية السياسية والدينية

*حقوق المواطنة هي حقوق أصلية طبيعية، فلكل فرد الحق بالحياة والحرية والاختيار والتعبير والانتقال وغيرها

*تمّ اغتصاب هذه الحقوق باسم سلطات أمر واقع، سلطات سياسية، سلطات دينية وباسم الجهل والأوهام جرى ويجري استعباد البشر بعقولهم وأرواحهم قبل أجسادهم

*ترتبط المواطنة بالمفاهيم الحديثة للقومية والديمقراطية. وهي لا تستند إلى مرجعية غيبية باسم حق إلهي ولا إلى مرجعية من خارج المجتمع

*السلطة الشرعية هي في سيادة الشعب الذي يشكّل مجموعة من المواطنين الأحرار الذين يشتركون في الحياة ضمن بيئة جغرافية محددة

*المواطن هو مَن يملك السيادة والمواطنون هم مَن يختارون السلطة السياسية عن طريق الانتخاب. هم مصدر السلطة الذي يعطيها الشرعية. والمواطنة لا ترتبط بأية عصبية دينية أو طائفية أو عرقية، لا بل تتناقض معها

*التحديات الأكبر والأخطر هي التي تواجهها الدول والمجتمعات العربية التي لا تزال خاضعة للهيمنة والنفوذ الغربي، والتي تسودها نظم سياسية يغلب فيها الاستبداد والعصبيات على اختلافها ويضمر فيها التفكير العلمي والعقلاني

 

*لا يمكن فهم المواطنة وتطوّر حقوقها إلا من خلال وضعها في الإطار الثقافي والاجتماعي الذي نشأت وتطوّرت فيه

 

*لا مواطنة بدون ديمقراطية، ولا مواطنة في دول تسودها العصبيات الدينية والطائفية والمذهبية، أو العرقية والعشائرية وغيرها من العصبيات

*في الدولة القومية تسود العلاقة المتساوية بين المواطنين، في الأنظمة السابقة تسود علاقات التبعية وليس علاقة المساواة

 

*حين يُقرِنُ الأفراد وجودهم بالأمة فإنهم يقرّون بوضعهم الشرعيّ كأعضاء من مجموعة، كيان، وليس كتابعين لفرد ما.

المواطنة أساس عملية الاندماج الوطني وتمثل حجر الزاوية في الدولة الوطنية الحديثة

*لكلِّ شخص، بوصفه عضوًا في المجتمع، حقٌّ في الضمان الاجتماعي، ومن حقِّه أن تُوفَر له، من خلال المجهود القومي والتعاون الدولي، وبما يتَّفق مع هيكل كلِّ دولة ومواردها، الحقوقَ الاقتصاديةُ والاجتماعيةُ والثقافيةُ التي لا غنى عنها لكرامته ولتنامي شخصيته في حرِّية

* الدول الكبرى تخالف الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بمنعها عودة الفلسطينيين الذين طُردوا من ديارهم بعد اغتصاب فلسطين من قبل العصابات الصهيونية وبدعم من هذه الدول الكبرى. ومعظم الدول العربية لا تلتزم بهذا الإعلان

* ارتبط مفهوم المواطنة بالمجتمع بالمكان الذي يشكل وحدة حياة متميّزة نسبياً عن المجتمعات الأخرى، وأصبحت هوية الانتماء إلى المكان هي الأساس والبديل عن الهويات المحلية السابقة. وأصبحت لكل فرد ينتمي إلى المجتمع حقوق وعليه واجبات بالتساوي مع الآخرين. وتطور مفهوم المواطنة ليشمل المساواة القانونية والسياسية وصولاً إلى حقوق اجتماعية تضمن الحد الأدنى من معيشة لائقة وضمانات صحية واجتماعية

المعيار الحقيقي للمواطنة هو العمل للمصلحة العامة وعدم استغلالها لمصالح شخصية أو عائلية أو سياسية

*نبّه سعاده إلى انحراف الديمقراطية الغربية ودعا إلى إزالة الخلل والفساد الذي لحق بها نتيجة الفلسفة الفردية الليبرالية المتوحشة التي سهّلت للطبقة الرأسمالية استغلال الطبقات الشعبية والأمم الضعيفة ونهب مواردها

*في لبنان نشأت الطائفية السياسية مع التدخلات الأجنبية وربط مصير كل طائفة بدولة أجنبية. النظام السياسي الطائفي لم ينشأ بإرادة داخلية بل نتيجة تدخلات خارجية بالتعاون مع قوى محلية

*الدولة القومية هي التنظيم السياسي الخاص بالأمة، الذي أعطى الأمة حيوية لم تعرفها في السابق، وأكد مبدأ سيادة الأمة على نفسها وهذا ما حرّر الشعب من أوهام السلطة الخارجية، سواء استندت الى سلطة غيبية أو الى سلطة واقعية خارج الأمة

* الوطن الذي يجب أن نضحّي من أجله هو الوطن الذي تحفظ فيه كرامة كل فرد وحقوقه، هو الوطن الذي نحافظ عليه لأجيالنا بيئة نظيفة صالحة غير ملوّثة

مفهوم المواطنة غائب والتفكك الاجتماعي والنفسي سائد والهويات الطائفية والمذهبية والأثنية والعشائرية مسيطرة والطبقة السياسية مرتهنة للخارج بولاءات متعدّدة

*ظاهرة الوجدان القومي هو الأساس في ثقافة المواطنة.

*واجب محاربة النزعة الفردية التي تمثل التهديد الأخطر لوحدة المجتمع وتعمل على تفكيكه.

*المواطنة لا تتحقق بالانتخاب المحكوم بالعصبيات والأحقاد والأنانيات الهدامة دون أي وعي بالمصالح العامة التي تهمّ الجميع.

 الوصول إلى حقوق المواطنة العادلة ممكنة ولكنه لا يتم إلا بالدولة القومية التي تساوي بين أبنائها كافة وتؤمّن العدل الاجتماعي – الاقتصادي –  الحقوقي

 

أطلقت عمدة الثقافة والفنون الجميلة في الحزب السوري القومي الاجتماعي، المنتدى الثقافي الافتراضي عبر تطبيق Zoom ، وكانت البداية بندوة أدارها عميد الثقافة والفنون الجميلة الدكتور كلود عطية وحضرها العشرات من القوميين والمواطنين قدم فيها الأمين البروفسور يوسف كفروني دراسة غنية بعنوان «يوتوبيا المواطنة وتحدياتها».

نص المحاضرة ـ الدراسة نشرته صحيفة “البناء” على 5 حلقات متتابعة بدءاً من يوم الاثنين 16 كانون الثاني الى يوم الجمعة 20 كانون الثاني 2023، ويعيد الموقع الرسمي للحزب نشر النص كاملاً:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لماذا يوتوبيا المواطنة؟

حقوق المواطنة هي حقوق أصلية طبيعية، فلكل فرد الحق بالحياة والحرية والاختيار والتعبير والانتقال وغيرها.

لقد تمّ اغتصاب هذه الحقوق باسم سلطات أمر واقع، سلطات سياسية، سلطات دينية وباسم الجهل والأوهام جرى ويجري استعباد البشر بعقولهم وأرواحهم قبل أجسادهم. وعندما كان الناس يستشعرون ظلماً واضطهاداً لا يقاوم استنجدوا بمنقذ من عالم الغيب وترجّوا وطناً آخر.

وبعدما تجسّدت الحقوق بتشريعات وقيم أخلاقيّة إنسانية ودينية تجسدت قيم المواطنة في الدولة الحديثة بدساتير وقوانين ومؤسسات في دول عديدة. لكن تظل هذه الحقوق مهدّدة بالانتهاك والتغييب والإبطال. وتبقى هذه الحقوق يوتوبيا نعمل لتحقيقها.

فلنعرف حقوقنا لنناضل لتحقيقها.

لا ترتبط المواطنة بدلالاتها اللغوية عربياً، بل بالمفاهيم الحديثة للقومية والديمقراطية، حيث جاءت نشأة الدولة الحديثة في الغرب بعد ثورات عديدة فكرية واقتصادية وسياسية. وهي لا تستند إلى مرجعية غيبية باسم حق إلهي ولا إلى مرجعية من خارج المجتمع. السلطة الشرعية هي في سيادة الشعب الذي يشكّل مجموعة من المواطنين الأحرار الذين يشتركون في الحياة ضمن بيئة جغرافية محددة.

حقوق المواطنة في الغرب جاءت بعد صراع طويل مع سلطة الاستبداد السياسي والديني، فالحقوق لا تُمنح بل يتمّ تحصيلها بالعقل والعلم والنضال والتضحيات.

المواطن هو مَن يملك السيادة والمواطنون هم مَن يختارون السلطة السياسية عن طريق الانتخاب. هم مصدر السلطة الذي يعطيها الشرعية. والمواطنة لا ترتبط بأية عصبية دينية أو طائفية أو عرقية، لا بل تتناقض معها.

لا تزال بنية العلاقات في المجتمعات العربية قائمة على علاقات القرابة والطائفية والاستزلام والواسطة لحلّ المشاكل والحصول على حقوق وامتيازات وليس على أساس الكفاءة أو القوانين.

ولا يزال موضوع المواطنة وحقوق الإنسان من الموضوعات الحيويّة التي يتمّ تداولها بكثرة في الكتب والدراسات والمؤتمرات في مختلف الدول والمجتمعات. وهذا يشير إلى التحديات التي تواجه الإنسان المواطن وحقوقه في الحياة الحرة والكريمة. وتأتي التحديات من الداخل والخارج حتى في الدول المتقدّمة التي تراجعت ديمقراطيتها في الواقع وأصبحت ديمقراطية شكلية تتحكّم فيها القلة المسيطرة مالياً وإعلامياً.

التحديات الأكبر والأخطر هي التي تواجهها الدول والمجتمعات العربية التي لا تزال خاضعة للهيمنة والنفوذ الغربي، والتي تسودها نظم سياسية يغلب فيها الاستبداد والعصبيات على اختلافها ويضمر فيها التفكير العلمي والعقلاني.

رغم التطوّر الحاصل في حقوق المواطن، الواردة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، لكن في الواقع، لا تزال هذه الحقوق غائبة أو ناقصة في العديد من البلدان المتخلّفة والمتقدّمة. ولا تزال معرّضة للانتهاكات.

كما أصبحت المواطنة وحقوق الإنسان، مادة للدعاية السياسية عند الدولة العظمى التي تصنّف الأفراد والجماعات والدول الذين ينتهكون بنظرها هذه الحقوق، وتُخضعهم للعقوبات المتنوعة.

أسئلة جوهرية:

ما معنى حقوق المواطنة في دول متقدّمة تتسع فيها الفجوة بين الشعب. ويزداد الاستقطاب الحاد بين الأثرياء والفقراء؟ وتزداد أعداد المحرومين والمهمّشين والمستبعدين؟

كيف ندعو إلى تعزيز حقوق الإنسان داخل المجتمع ونقوم باستغلال واستعمار واستعباد الشعوب الأخرى؟

هل تضمن القوانين حقوق الانسان المواطن في ظل النزعة الفردية المتزايدة والليبرالية المتوحشة التي تعمل على إلغاء دولة الرعاية والحماية وإطلاق العنان لفلسفتها: “دعه يعمل دعه يمرّ دعه يمُت” (هنري حاماتي).

إذا كانت حقوق المواطنة تؤكّد على حق الحياة لكل فرد، فكيف يمكن ضمان حق الحياة في هذا العصر دون تأمين حق التعليم وحق الوصول إلى المعلومات وحق العمل وحق الطبابة؟

المواطنة تستلزم ضمان حرية الفرد وحياته واستقلاله والالتزام بواجباته بالتساوي مع الآخرين من أبناء وطنه. ألا يستلزم أيضاً ضمان حرية وحياة واستقلال الأمم بالتساوي ودون تمييز، وعدم التعدّي عليها سياسياً أو اقتصادياً؟

لماذا مع صعود الدول الحديثة في الغرب وإعلان حقوق الإنسان والمواطن جرت استباحة حقوق الشعوب في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية؟ ولماذا تستمرّ استباحة هذه الشعوب والهيمنة عليها سياسياً واقتصادياً ومالياً؟

ألا يستدعي تطور الحقوق على مستوى الفرد تطورها على مستوى الجماعات والأمم؟

في معنى المواطنة:

المواطنة في اللغة العربية، تدلّ على السكن والاستقرار في بلد ما. ولا ترتبط بأية حقوق.

في اللغة الأجنبية ارتبطت المواطنة بالمدينة أولاً، ثم جرى تعميمها على أبناء الدولة الواحدة. وكلمة  civitas = المدينة باللاتينية. إعطاء المواطن حق المساهمة في إدارة المدينة والتمتع بالحقوق والواجبات حسب قانون المدينة.

المواطنة / citoyennete ترتبط بالمدينة، حيث كان سكانها الأسبق في التحرر من سلطة الإقطاعي، والمشاركة في إدارة شؤون المدينة. ثم تعمّم هذا المفهوم ليشير إلى الولاء للمجتمع، للدولة – الأمة.

“تحدّد المواطنة علاقات الفرد بالدولة بشكل رئيس. والهوية المدنية مصونة بالحقوق التي تسبغها الدولة وبالواجبات التي يؤديها المواطنون الذين هم أشخاص مستقلون ومتساوون في أوضاعهم الشرعيّة. إن فكرتي الاستقلالية والمساواة في المكانة، والمشاركة المدنية في شؤون الدولة، تضعان المواطنة، نظرياً، بمعزل عن الأشكال الإقطاعية والملكية والاستبدادية للهوية الاجتماعية – الهوية التي أصبحت مرتبطة بشكل وثيق بالمواطنة هي القومية”. (مينش، 2010، صفحة 14).

ترتبط المواطنة بالدولة القومية الديمقراطية التي نشأت في الغرب وفي الإعلان عن حقوق الإنسان والمواطن إثر الثورتين الأميركية والفرنسية وفي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة سنة 1948.

تتحدّد المواطنة حالياً تبعاً لبطاقة الهوية التي يحملها الفرد والتي تشير إلى الدولة التي يحمل جنسيتها. ومن الناحية السياسية تدل على حقوق المواطن التي تكفلها قوانين الدولة ودستورها، والواجبات المفروضة عليه.

لا يمكن فهم المواطنة وتطوّر حقوقها إلا من خلال وضعها في الإطار الثقافي والاجتماعي الذي نشأت وتطوّرت فيه.

لا مواطنة بدون ديمقراطية، ولا مواطنة في دول تسودها العصبيات الدينية والطائفية والمذهبية، أو العرقية والعشائرية وغيرها من العصبيات.

تُعَرَّفْ المواطنة بالحقوق والحريات الّتي يجب أن يتمتع بها جميع المواطنين بالتساوي، كالحقوق المدنيّة والسّياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة الخ…

وتعرّف بالعلاقة بين فرد ودولة، دون وسائط، كما يحدّدها قانون تلك الدولة، وبما تتضمنه تلك العلاقة من واجبات وحقوق في تلك الدولة.

للمواطن حقوق مدنية: الحرية في الاعتقاد والتعبير والتنقل والتزوّج، وحقوق سياسية: المشاركة في الحياة السياسية وشغل جميع الوظائف العامة. وعليه واجبات: احترام القوانين والمساهمة في النفقات الجماعية وفقاً لموارده والدفاع عن المجتمع الذي ينتمي إليه. والمواطنة هي أساس الشرعية السياسية. (شنابر وباشولييه، 2016، صفحة 10)

المواطنة هي أساس الرابط الاجتماعي، ففي المجتمع الديمقراطي الحديث لم يعد الرباط بين الأفراد دينياً أو سلالياً وإنما سياسياً. فعيش أفراد معاً لا يعني بالضرورة اعتناقهم الدين ذاته أو اشتراكهم في التبعية للملك الحاكم ذاته أو خضوعهم للسلطة ذاتها وإنما لكونهم مواطنين تابعين للنظام السياسي ذاته. (شنابر وباشولييه، 2016، صفحة 11).

تستند الديمقراطية إلى فكرة سيادة الشعب، ولا شعب بلا مواطنين، ولا سيادة أفراد غير مواطنين. السيادة للمواطنين، فإذا انتفى وجودهم، بتغييب مبدأ المواطنة، فليس هناك مَن يتقمّص هذه السيادة، وبالتالي لا يمكننا الحديث عن ديمقراطية في غياب المواطنين، فالمواطنة هي الإمكانية الوحيدة لتكريس سيادة القانون والمساواة أمامه ولممارسة الحد الأدنى من الحقوق ومن ضمن ذلك المطالبة بالحقوق. (سنان، 2017، صفحة 5).

المواطن كيان قانوني له حقوق وعليه واجبات، وبما أن الديمقراطية مسألة سياسية فإن المواطن ينظر إليه باعتباره كياناً سياسياً، فالمواطنة لا بد أن تقوم على المساواة القانونية بين الجميع وعلى استقلال القضاء وعدم استبداد الدولة. (سنان، 2017، صفحة 5).

المواطنة تتجاوز الروابط الاجتماعية كالعشائرية والمذهبية والعرقية والإثنية والدينية، ولهذا فالمواطنة عضوية كاملة تنشأ من علاقة بين فرد ودولة، دون وسائط بينهما. الهوية التي أصبحت مرتبطة بشكل وثيق بالمواطنية، خاصة، هي القومية. فخلال الفترة من عام 1800-2000 ب. م، أصبحت الهويتان، ملتحمتين بعد أن سيطرت فكرة أن الدولة والأمة يجب أن تكونا متطابقتين. (هيتر، 2007، صفحة 15).

تطوّر مفهوم المواطنة:

نجد جذور المواطنة مع بداية التشريع في الدولة وتطور هذه التشريعات في مجال الحقوق. يرجع معظم المؤرخين البداية إلى المدن اليونانية في القرن الخامس ق.م. ولكن الحفريات الأثرية بيّنت أن بداية التشريع وجدت قبل ذلك بكثير.

يذكر صموئيل كرايمر عالم الآثار والمؤرخ الشهير في كتابه، “من ألواح سومر” أنّ أول إصلاح اجتماعي ظهر في الألف الثالث ق.م في منطقة الهلال الخصيب في دولة المدينة السومرية لغش. يقول: “ثار أهل لغش ضد الظلم وأطاحوا بالحكم واختاروا حاكماً جديداً أوروكاجينا الذي أعاد القانون والنظام في دولة المدينة ومكّن حرية مواطنيها. كانت دولة لغش في الألف الثالثة ق.م. تتألف من مجموعة صغيرة من مدن مزدهرة تتجمّع كل منها حول المعبد”. (كرايمر، 1956، صفحة 105)

ويتابع حول إنجازات أوروكاجينا قائلا: “أخذ على نفسه ميثاقاً أمام إله المدينة: “لن يسمح بأن يقع اليتامى والأرامل فريسة لظلم الأقوياء”. ويؤكّد كرايمر أن فكرة الحرية في حدود القانون كانت معروفة لدى السومريين في الألف الثالث ق.م. (كرايمر، 1956، الصفحات 112-113)

يعدّد الشرائع التي عرفتها المنطقة: شريعة حمورابي الذي بدأ الحكم 1750 ق.م. وشريعة لبت عشتار قبل حمورابي بـ 150 عاماً وشريعة بلالاما قبل لبت عشتار بـ 70 عاماً. (كرايمر، 1956، صفحة 116)

ويشير إلى أن أول برلمان سياسي معروف في تاريخ الإنسان المدوّن قد التأم في حدود 3000 ق.م. في بلاد سومر في العراق قبل المجالس الأغريقية السياسية بزمن طويل. يتألف من مجلسين: مجلس الشيوخ أو الأعيان ومجلس العموم. (كرايمر، 1956، صفحة 81)

في المدينة – الدولة عند الفينيقيين واليونان، كان يحقّ للرجال الأحرار المشاركة السياسية. لكن الدولة المدينة لم تدُم طويلا، وسادت الدول الإمبراطورية المرحلة الأطول في التاريخ.

الدولة الإمبراطورية أخضعت العديد من الشعوب لسلطة سياسية واحدة، إلا أنها لم تخلق انتماء أو ولاء واحداً للأرض التي تسيطر عليها عند هذه الشعوب.

الدولة الإمبراطورية المسيحية في الغرب ربطت شرعيّة الحكم بالدين ومفهوم الحق الإلهي.

الدولة الإمبراطورية الإسلامية في الشرق ربطت شرعية الحكم بالدين، وشكّل الصراع على السلطة أساس الانقسامات الطائفية والمذهبية.

في هذه الدول كان يوجد رعايا محكومون من قبل سلطات حكمت بالقوة وتبدّلت بالقوة والغلبة.

مفهوم المواطنة كان غائبا ولم يكن حاضراً لا في الدولة المسيحية في الغرب ولا في الدولة الإسلامية في الشرق.

المواطنة ليست جزءاً من التراث السياسي الإسلامي ومكان المواطنة كان مفهوم الرعية الذين يرعاهم راع، وقد اختلفت المذاهب وآراء الفقهاء حول طريقة اختياره ومرجعية سلطته، والمجتمع الإسلامي كان محكوماً منذ بداياته بنصوص دينية تتحدّث عن الراعي والرعوية والشورى وليس عن المواطن والمواطنة والديمقراطية. (سنان، 2017، صفحة 10)

في الدولة القومية تسود العلاقة المتساوية بين المواطنين، في الأنظمة السابقة تسود علاقات التبعية وليس علاقة المساواة.

حين يُقرِنُ الأفراد وجودهم بالأمة فإنهم يقرّون بوضعهم الشرعيّ كأعضاء من مجموعة، كيان، وليس كتابعين لفرد ما.

في الأنظمة الإقطاعية والملكية والاستبدادية تتحدّد علاقة الفرد بالتبعية لفرد آخر أو مجموعة وعصبية معينة. المواطنية تحدّد علاقة الفرد بفكرة الدولة – الأمة والهوية المدنية مصونة بالحقوق التي تضعها الدولة وبالواجبات التي يؤديها المواطنون. إن فكرتي الاستقلالية والمساواة في المكانة، تضعان المواطنية بمعزل عن الأشكال الإقطاعية والملكية والاستبدادية للهوية الاجتماعية – السياسية. (هيتر، 2007، صفحة 14)

في سياق التطورات التاريخية التي مرّت بها أوروبا ولد مفهوم المواطنة بمعناها القانوني، أي الحقوق والواجبات المترتبة بالتساوي على أي مواطن عضو في اجتماع سياسي، بصرف النظر عن أي عامل من عوامل التمييز على أساس اللون، أو العرق، أو الدين أو الفكر، أو الموقف المالي، أو الانتماء السياسي. غير أن التطبيق العملي لهذا المعنى على جميع المواطنين دون استثناء لم يحدث فعلياً إلا في حقب متأخرة جداً. فدستور الثورة الأميركية لسنة 1787 استبعد النساء، و”الهنود الحمر”، والجنس الأسود، من دائرة المواطنة، وظل هذا الوضع قائماً، رغم إلغاء الرق سنة 1800، ولم تتحقق لهم المواطنة إلا في سنة 1965، ولم تضع الثورة الفرنسية حداً للعبودية إلا في عام 1848، واستمرّت المرأة على المستوى السياسي محرومة من ممارسة ومباشرة الحقوق السياسية، فلم تعترف فرنسا بحق النساء في التصويت إلا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وفي انجلترا لم تحصل المرأة على المساواة السياسية وحق المواطنة بمعناه الشامل إلا في سنة 1928 بصدور قانون المساواة في الانتخابات بين الرجل والمرأة (سنان، 2017، الصفحات 25-26)

مفكر هولندي اسمه هوغو غروشيوس طرح سنة 1625 فكرة أن الحقوق قابلة للتطبيق على كل أفراد الجنس البشري ولا تقتصر على بلد واحد أو فئة معينة. واقترح أيضاً أن الناس بمقدورهم استخدام حقوقهم بدون مساعدة الدين لإرساء الأسس التعاقدية للحياة الاجتماعية. (هانت، 2013، صفحة 98)

لم يكن مسموحا للبروتستانت قانونياً أن يمارسوا دينهم أو يتزوّجوا أو يورثوا ممتلكاتهم. بعد عام 1787 حصلوا على الحقوق المدنيّة فقط وليس على حقوق المشاركة السياسية المتساوية. بعد الثورة الفرنسية حصلوا على الحقوق السياسية. (هانت، 2013، صفحة 127)

حقوق المواطنة السياسية لم تعط للجميع، لقد اقتصرت أولاً على أتباع المذهب الغالب ثم المذاهب الأخرى للدين ثم منحت للجميع، وأخيراً حصلت المرأة على الحقوق السياسية. (هانت، 2013، صفحة 122)

واعتبر الفيلسوف جان لوك أن لكل إنسان الحق بأن يحافظ على حياته وحريته وممتلكاته هذه الصيغة تردّدت في إعلان الاستقلال الأميركي 1776 والإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن 1789 (هيتر، 2007، صفحة 101)

أكّد روسو على أولوية الحرية ومفهوم الإرادة العامة، وأن أفراد الشعب في الدولة أسياد ينظرون مجتمعين وبحرية في ما يشكل أفضل المصالح للمجتمع ليقرّروها. الناس مواطنون حين يصوغون الإرادة العامة وتابعون في طاعتهم لتبعات هذه القرارات. لكنهم في كلتا الصفتين أحرار حقيقيون محررون من أية سلطة اعتباطية. (هيتر، 2007، صفحة 106)

يرى روسو أن المصلحة المشتركة هي ما يجعل الإرادة عامة. (روسو، العقد الاجتماعي، 1995 ط2 ترجمة، صفحة 68)

والعقد الاجتماعيّ هو عقد سيادة: “الميثاق الاجتماعي يجعل بين المواطنين من المساواة ما يلزمون أنفسهم معه بالشروط ذاتها وما يجب أن يتمتعوا معه بالحقوق ذاتها، وهكذا فإن كل عقد سيادة، أي كل عقد صحيح للإرادة العامة، يُلزم جميع المواطنين، فلا يعرف السيد بذلك غير هيئة الأمة ولا يفرّق بين مَن تتألف منهم. (روسو، العقد الاجتماعي، 1995 ط2 ترجمة، صفحة 69)

روبسبيير رفع شعار الحرية والمساواة والإخاء. ومفهوم روسو للإرادة العامة والفضائل المدنية كان ضدّ حصر حق التصويت. واعتبر أن التمييز بين المواطن الفاعل والمواطن السلبي يناقض المساواة التي نودي بها بفخر في إعلان الحقوق. (هيتر، 2007، صفحة 125)

أزيلت العبودية في الولايات المتحدة الأميركية 1862 واكتسب السود صفة مواطنين بنظر القانون، ولكن استمرت معاملتهم بشكل سيئ كمواطنين درجة ثانية. اتخذت معاناة الأميركيين السود شكل تعليقات مريرة على المساواة والحياة والحرية والسعي إلى توفير السعاده التي نادى بها إعلان الاستقلال كحقوق مكتسبة بالولادة للأميركيين. (هيتر، 2007، صفحة 140)

تُعدّ الثورة الفرنسية نقطة تحول، حيث عَرِفَ مفهوم المواطنة معها تطوراً هاماً في تدشين أولى الخطوات لتثبيت الحقوق المدنية الاجتماعية للمواطن الإنسان، فأصبح مفهوم المواطنة يشمل الحقوق المدنية والسياسية، والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، مع إقرار مبدأ المساواة أمام القانون، وعدم إقصاء الأقليات أو أي فئة في المجتمع. لتُكرِّس الثورة الفرنسية رؤيتها للعالم الجديد بإعلان حقوق الإنسان، والدفاع عنه بعد إغنائها بروح المواطنة.

الكاتب المصري رفاعة الطهطاوي (1801-1873) هو أول من استخدم مصطلح المواطنة في العالم العربي، وربطه بالحقوق العامة، فانتماء الفرد للوطن يعني أن يتمتع بحقوقه ويلتزم بواجباته، فالمواطنة هي أساس عملية الاندماج الوطني، وتمثل حجر الزاوية في الدولة الوطنية الحديثة، التي تشكل الإطار السياسي والقانوني، الذي تمارس فيه حقوق المواطنة وواجباتها، وهي تعني الالتزام بالمصلحة العامة، والتسامح بين أبناء الشعب، والتخلص من التعصّب الديني، ذلك أن الأخوة الإنسانية في نظر الطهطاوي تلزم عبادة الله، فقد أكد الطهطاوي على ضرورة تحقيق العدالة والمساواة بين الذين يعيشون في وطن واحد في جميع ما يجب على المؤمن لأخيه المؤمن منها، يجب على أعضاء الوطن في حقوق بعضهم على بعض لما بينهم من الأخوة الوطنية (سنان، 2017، الصفحات 59-60)

وشكّل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان — وثيقة تاريخية هامة في تاريخ حقوق الإنسان — صاغه ممثلون من مختلف الخلفيات القانونية والثقافية من جميع أنحاء العالم، واعتمدت الجمعية العامة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في باريس في 10 كانون الأول/ ديسمبر 1948.

تؤكد مواد الإعلان، على الحق في الحياة والحرية والأمان ومنع الاستعباد وحرية الرأي والتعبير والتنقل والعودة إلى البلد وغير ذلك.. وأن لكلِّ شخص، بوصفه عضوًا في المجتمع، حقٌّاً في الضمان الاجتماعي، ومن حقِّه أن تُوفَر له، من خلال المجهود القومي والتعاون الدولي، وبما يتَّفق مع هيكل كلِّ دولة ومواردها، الحقوقَ الاقتصاديةُ والاجتماعيةُ والثقافيةُ التي لا غنى عنها لكرامته ولتنامي شخصيته في حرِّية.

ولكلِّ شخص حقٌّ في مستوى معيشة يكفي لضمان الصحة والرفاهة له ولأسرته، وخاصَّةً على صعيد المأكل والملبس والمسكن والعناية الطبية وعلى صعيد الخدمات الاجتماعية الضرورية، وله الحقُّ في ما يأمن به الغوائل في حالات البطالة أو المرض أو العجز أو الترمُّل أو الشيخوخة أو غير ذلك من الظروف الخارجة عن إرادته والتي تفقده أسباب عيشه.

ولكلِّ شخص حقٌّ في التعليم. ويجب أن يُوفَّر التعليمُ مجَّانًا، على الأقل في مرحلتيه الابتدائية والأساسية. ويكون التعليمُ الابتدائيُّ إلزاميًّا. ويكون التعليمُ الفنِّي والمهني متاحًا للعموم. ويكون التعليمُ العالي مُتاحًا للجميع تبعًا لكفاءتهم.

وجاء في المادة 16. للرجل والمرأة، متى أدركا سنَّ البلوغ، حقُّ التزوُّج وتأسيس أسرة، دون أيِّ قيد بسبب العِرق أو الجنسية أو الدِّين. وهما متساويان في الحقوق لدى التزوُّج وخلال قيام الزواج ولدى انحلاله.

http://www.un.org/ar/universal-declaration-human-rights

من الواضح أن الدول الكبرى تخالف هذا الإعلان بمنعها عودة الفلسطينيين الذين طُردوا من ديارهم بعد اغتصاب فلسطين من قبل العصابات الصهيونية وبدعم من هذه الدول الكبرى.

ومعظم الدول العربية لا تلتزم بهذا الإعلان.

الشعور بالمواطنة، بالهوية الوطنية، لم يكن سائداً، فقد كانت الهويات المحلية الطائفية والمذهبية والقبلية هي السائدة. فقبل حروب نابوليون، كان القليل من سكان ألمانيا من يعتبر نفسه ألمانيا، كانوا ينظرون إلى أنفسهم كبروسيين أو بافاريين أو سكسونيين أو مواطنين في واحدة من مئات الدويلات والمدن والأسقفيات الأخرى. (شيفر، 1966، الصفحات 161-162)

بدأت ممارسة حقوق المواطنة في المستعمرات الأميركية، حيث كانت الانتخابات تجري بانتظام وحق الاقتراع محصوراً بالرجال ذوي الشأن كما في البلد الأم لكن المشاركة في الاقتراع كانت ضعيفة. مع الثورة الأميركية دخلت كلمة مواطن للدلالة على عضو في الدولة ولم تعد مقتصرة على الإشارة إلى مجرد عضو في المدينة.

جون لوك هو الذي وضع فكرة الحقوق بشكل ثابت على الأجندة السياسيّة: “لكل إنسان الحق بأن يحافظ على حياته وحريته وممتلكاته”. (مينش، 2010، الصفحات 100-101)

عرّفت الأنسيكلوبيديا (ديدرو) كلمة مواطن بأنه: “عضو في مجتمع حرّ يتألف من عدة أسر، يشارك في حقوق هذا المجتمع ويتمتع بامتيازاته، وليس هناك وطن في ظل العبودية، والوطن أب وأبناء بمعنى عائلة ومجتمع ودولة حرة نحن أعضاء فيها تضمن قوانينها لنا حرياتنا وسعادتنا”. ويقول روبسبيير في تعريف كلمة وطن: “ما هو الوطن، إن لم يكن البلاد التي يكون فيها الفرد مواطناً وعضواً في الكيان ذي السيادة؟ إن كلمة وطن في الدولة الأرستقراطية كانت تعني شيئاً يخصّ الأرستقراطيين الذين احتكروا السلطة وحدهم، وفي الديمقراطية وحدها تكون الدولة وطناً حقيقياً لجميع الأفراد الذين يؤلفونها ويستعدّون للدفاع عنها جنوداً عددهم يساوي عدد مواطنيها”. (شيفر، 1966، الصفحات 284-286)

ثمة عوامل متعددة ساهمت في تفكك النظام الإقطاعي القديم، وظهور الدولة الحديثة في الغرب، المعروفة بالدولة القومية، الدولة – الأمة. في هذه الدولة يمكن الكلام عن المواطنة بمعنى الانتماء إلى الوطن، المكان – البقعة الجغرافية المحددة التي نشأت فيها الأمة. المواطنة المرتبطة بمفهوم سيادة الشعب الذي هو وحده مصدر السلطة، وعدم الاعتراف بأي مصدر آخر.

لقد عملت الثورات الفكرية والدينية والسياسية، وفلسفة التنوير، على زعزعة المفاهيم والقيم والولاءات المرتبطة بالنظام الاقطاعي والسلطة الكنسية السائدة آنذاك، وخلقت مفاهيم وقيماً جديدة وتفكيراً نقدياً أكثر ارتباطاً بالواقع وبالنظرة العقلانية والعلمية.

وترافقت تلك الثورات مع الاكتشافات والاختراعات الجديدة، وصولاً إلى الثورة الصناعيّة التي أقامت الاجتماع على أسس جديدة.

لم يعن ظهور الدولة – الأمة، أن الانتماء الوطني تحقّق فوراً. لقد اتخذت عدة إجراءات لتحقيقه. ولا تزال المجتمعات الغربية تعاني من بعض المشاكل الداخليّة، من حركات تمرّد وانفصال، وحركات رفض شبابية، ومشاكل المهاجرين، إضافة إلى تهديدات العولمة.

العوامل التي ساهمت في تحقيق المواطنة وتطوّرها:

  • النمو الكبير في الصناعة: ساهم في إلغاء أشكال التنظيمات القديمة وخصوصية الجماعات المحلية وخلق كتلة جماهيرية واسعة منفتحة على بعضها البعض.
  • نمو طرق المواصلات: مما سهّل التفاعل بين أبناء الشعب. وفي هذا المجال يقول برونو Brunotمؤرخ اللغة الفرنسية: “إن مهندسي الطرق والجسور خدموا قضية اللغات القوميّة أكثر وأحسن مما خدمها كثير من الجامعيين الأكاديميين”. (شيفر، 1966، صفحة 317).
  • التشريع المدنيّ الموحّد: ألغى التمايز القانوني بين أبناء المجتمع وأخضع الجميع لقانون واحد مع ما يعنيه من مساواة قانونيّة وشعور بالوحدة.
  • التعليم: انتشر التعليم الرسمي الذي بدأ مع الثورة الفرنسية انتشاراً واسعاً في أوروبا وأميركا. وأصبح عاماً ومجانياً وإلزامياً.
  • الحريات العامة: حرية التعبير، حرية تشكيل الأحزاب، حرية التصويت وصولاً إلى الترشح لأي منصب. الانسان مسؤول أمام القانون وليس أمام أي شخص، ومتساو في الحقوق والواجبات. وهذا ما أعطاه الشعور بالقيمة والكرامة.

 

ارتبط مفهوم المواطنة بالمجتمع بالمكان الذي يشكل وحدة حياة متميّزة نسبياً عن المجتمعات الأخرى، وأصبحت هوية الانتماء إلى المكان هي الأساس والبديل عن الهويات المحلية السابقة. وأصبحت لكل فرد ينتمي إلى المجتمع حقوق وعليه واجبات بالتساوي مع الآخرين. وتطور مفهوم المواطنة ليشمل المساواة القانونية والسياسية وصولاً إلى حقوق اجتماعية تضمن الحد الأدنى من معيشة لائقة وضمانات صحية واجتماعية.

وصولاً إلى المواطنة الرقمية وضمان الحصول على المعلومات التي هي حق لكل فرد. وللحصول على الاستفادة المثلى وللمساهمة في تنمية مجتمع المعرفة وبناء الاقتصاد الرقمي الوطني.

المعيار الحقيقي للمواطنة هو العمل للمصلحة العامة وعدم استغلالها لمصالح شخصية أو عائلية أو سياسية.

الوطن الوطنية المواطن المواطنة مفاهيم أبعد من الدلالة اللغوية.

الوطن ليس مجرّد بقعة أرض ومكان نستقرّ فيه كيفما كان.

الوطن الذي يجب أن نضحّي من أجله هو الوطن الذي تحفظ فيه كرامة كل فرد وحقوقه، هو الوطن الذي نحافظ عليه لأجيالنا بيئة نظيفة صالحة غير ملوّثة.

والمواطنة هي حقوق متساوية للجميع وحفظ هذه الحقوق، حفظها من التعدّي من قبل الآخرين. التعدّي على حق أي فرد هو جريمة يعاقب عليها القانون ولكن الجريمة الأكبر والأخطر هي التعدّي على الحقوق العامة، وما أكثر جرائم الإعتداء على الحق العام ونهب المال العام.

منذ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 1948 تزداد الفجوة بين الأثرياء والفقراء وبين الدول الفقيرة والدول الغنية. وتزداد الحروب المباشرة وغير المباشرة ضد المجتمعات من قبل النظام المهيمن عالمياً. وتزداد المآسي والويلات التي تطال بشكل أساسي الشعوب الفقيرة.

ويستمر الصراع للسيطرة على الموارد الأساسية وموارد الطاقة خاصة.

الحرب العالمية الأولى كانت صراعا على الموارد وليس على المبادئ. وكذلك الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة وما تلاها والحرب اليوم الروسية الأميركية في أوكرانيا. تقاد هذه الحروب من قبل الطبقات الرأسمالية المسيطرة في الدول الكبرى وليس من قبل المواطنين وليس لمصلحتهم في أي مجتمع.

هكذا يتمّ استخدام حقوق الإنسان في الدعاية والمصالح السياسيّة.

تشير التقارير التي تصدرها منظمات حقوقية والتي تصدرها الولايات المتحدة الأميركية حول انتهاكات حقوق الإنسان، إلى وضع غير سليم بخصوص حقوق المواطنة عالمياً. وتشير الردود على هذه التقارير إلى اتهام الولايات المتحدة الأميركية بانتهاك حقوق الإنسان والمواطن وإلى استخدامها هذا الموضوع دعاية سياسية ولمعاقبة الدول والجماعات والشخصيات التي لا توافق سياستها، وفي الوقت نفسه، تغض النظر عن الانتهاكات الي يقوم بها حلفاؤها وجنودها.

بغض النظر عن دقة وصوابية أو خطأ هذه التقارير والردود عليها، فما هو واضح المسار الخطير للبشرية والتحديات الوجودية للمصير الإنساني، مما يجعل حقوق الإنسان والمواطن ومعها حقوق الجماعات والشعوب مسألة ملحّة وأساسية لاستقرار السلام في العالم.

وتردّ الصين على هذه التقارير بتقارير مفصلة حول انتهاكات حقوق الإنسان في الولايات المتحدة. وتقول الصين في تقريرها:

– الولايات المتحدة بلد له أسوأ سجل في عنف الأسلحة في العالم. فهناك شخص يقتل بالسلاح في الولايات المتحدة كل 15 دقيقة.

– الانتخابات غدت لعبة المال بالنسبة للأثرياء.

– الولايات المتحدة لديها أخطر استقطاب بين الأثرياء والفقراء في الدول المتقدمة.

– تُعدّ الولايات المتحدة حالياً الدولة المتقدمة الوحيدة التي تضم ملايين الجوعى. كان هناك 39.7 مليون شخص يعانون الفقر في الولايات المتحدة، وفقا لأرقام صادرة عن مكتب التعداد الأميركي عام 2018.

– جرائم الكراهية العرقيّة في الولايات المتحدة أصابت العالم بالصدمة.

– الولايات المتحدة هي “أكثر الدول حروباً في تاريخ العالم”. أنفقت الولايات المتحدة 6.4 تريليون دولار أميركي على الحروب التي شنتها منذ عام 2001، والتي أسفرت عن سقوط أكثر من 800 ألف قتيل وخلفت عشرات الملايين من النازحين.

أولا، الحقوق المدنية والسياسية مجرد اسم فحسب، حيث تتباهى الولايات المتحدة بأنها “أرض الحرية” و”منارة الديمقراطية”، إلا أن هذا ليس سوى شيء وهميّ لخداع الناس والعالم. إن الافتقار إلى الضوابط بشأن حق حيازة السلاح أدّى إلى تفشي عنف السلاح، ما شكل تهديداً خطيراً لحياة المواطنين وسلامة ممتلكاتهم. إن سياسة المال المتفاقمة تشوّه الرأي العام وتجعل ما يسمّى بالانتخابات الديمقراطية لعبة للأثرياء. (مكتب الإعلام بمجلس الدولة لجمهورية الصين الشعبية مارس 2020)

وفي تقرير آخر 2022 أبرز عناوينه: الفكر العنيف المتجذر يهدد الأرواح – التلاعب بالديمقراطية الزائفة يسحق الحقوق السياسية – التمادي في التمييز العنصري يزيد من تفاقم الظلم الاجتماعيّ – الانحراف عن القيم الإنسانية يؤدي إلى أزمة المهاجرين – انتهاك حقوق الإنسان في الدول الأخرى بالقوة المفرطة والعقوبات (بكين أول مارس 2022 (شينخوا)

وفي المملكة العربية السعودية، تنشر صحيفة الرياض يوم الجمعة 19 آب 2022 مقالاً لصالح النملة تحت عنوان أميركا والاستخدام السياسي لحقوق الإنسان، جاء فيه:

مفهوم حقوق الإنسان اليوم يُعدّ بحق واحداً من أكثر عوامل التأثير الذي تستخدمه الولايات المتحدة الأميركية في سياستها الخارجية من أجل بناء جبهة أو ضغوط تجاه دولة معينة أو مجموعة من الدول، ولذلك فإن مفهوم حقوق الإنسان والتقرير السنويّ الذي تصدره الإدارة الأميركية يُعدّ بمثابة تقرير ومؤشر هام عن توجيه الإدارة الأميركية المبدئي عن سياستها تجاه الدول المختلفة، وبالتالي فإن هذا التقرير يمكن أن يضمّ العديد من الدول التي ترى الإدارة الأميركية أنها لا تعمل بشكل جيد وواضح وكما هو مطلوب منها من قبل الإدارة الأميركية، ولذلك فإن مثل هذه التقارير تُعدّ للدارس والمراقب السياسي مؤشراً هاماً عن توجّه السياسة الأميركية تجاه بعض الدول والقضايا الدولية.

لقد استطاعت الولايات المتحدة الأميركية أن تبيع للعالم أجمل الصور الوردية والإنسانية للعديد من دول العالم ولفترة طويلة من الزمن رغم مذابح وفظائع فيتنام وانقلابات ومؤامرات أميركا اللاتينية والعالم العربي، إلا أن الولايات المتحدة الأميركية لم تغمس نفسها وبشكل مباشر وبشكل مفضوح وبعيداً عن ساحة المعركة، بل وبين جدران وأقبية سجن أبو غريب بهذا الوحل اللاإنساني كل هذا يدور بإدارة وإشراف أميركيين من أعلى المستويات.

وإذا كان سجن أبو غريب مثالاً صارخاً على انتهاك حقوق الإنسان وكرامته ومعتقداته من قبل الإدارة الأميركية، فإن ما يحدث في أفغانستان لا يختلف كثيراً عن ذلك وأن سجن ومعتقل غوانتانامو بالقرب من كوبا يُعدّ بحق أكثر الأدلة على استهتار الإدارة الأميركية بحقوق الإنسان، حيث إن مدة الاعتقال طالت مع تعذيب مستمرّ ودون إصدار اتهام أو محاكمة.

ديمقراطية القلّة

في كتاب ديمقراطية للقلّة، يظهر المحلل السياسي مايكل بارنتي، التناقض بين الرأسمالية القائمة والديمقراطية، وكيف ينتهك النظام الرأسمالي الديمقراطية بشكل مستمر. ويكشف العلاقة القوية بين السلطة السياسية والقوى الاقتصادية. ويجيب على الأسئلة الكاشفة لحقيقة الواقع الاجتماعي والسياسي في أميركا:

ما هو النهج الذي يتبعه النظام السياسي في الولايات المتحدة وكيف يؤدي مهامه؟ ما هي القوى الرئيسية التي تشكّل الحياة السياسية؟ مَن الذي يحكم الولايات المتحدة؟ مَن يحصل على ماذا، ومتى، وكيف ولماذا؟ من الذي يدفع الثمن وبأي السبل يتم ذلك. ويظهر كيف أن الحكومة تمثل أصحاب الامتيازات. وأن قوانين الدولة وضعت لدعم مصالح من يملكون على حساب البقية. ويبيّن السيطرة البشعة لمالكي الثروات الهائلة وقوة طبقة أصحاب الأعمال والشركات العملاقة، وكيف تلتهم موارد البيئة وتسمّم الأرض والماء والهواء. وهي تبتلع ثروات فائضة هائلة وتساعد في الوقت نفسه على خلق وإدامة الفقر لدى الملايين من الناس في داخل الولايات المتحدة وخارجها. (بارنتي، 2005، صفحة 10 و11 و15 و16 و32)

يذكر عالم الاجتماع ألان تورين في كتابه “ما الديمقراطية الآن؟” ليس في واقع الأمر من ديمقراطية دون اختيار حرّ للحاكمين من قبل المحكومين ودون تعددية سياسية. لا يمكن الكلام على الديمقراطية إذا لم يكن أمام الناخبين من خيار إلا فريقين من الأوليغارشية أو الجيش أو جهاز الدولة. (تورين، 2000 ترجمة، صفحة 11)

الأنظمة التي ندعوها بالديمقراطية ينتابها الضعف الذي يصيب الأنظمة الاستبدادية سواء بسواء. وأنها تخضع لمقتضيات السوق العالمية، التي تقوم على حمايتها، وتنظيم شؤونها، قوة الولايات المتحدة. (تورين، 2000 ترجمة، صفحة 12)

الديمقراطية التي أصيبت بالضعف يمكن تدميرها إما من فوق، على يد سلطة مستبدّة، وإما من تحت عن طريق الفوضى والعنف والحرب الأهلية، وإما انطلاقا من ذاتها عن طريق المراقبة التي تمارسها على السلطة كل من الأوليغارشيات أو الأحزاب التي تقوم بتكديس الوسائل الاقتصادية أو السياسيّة لتفرض اختيارها على مواطنين تحولوا إلى ناخبين ليس إلا. (تورين، 2000 ترجمة، صفحة 13)

ضرورة البحث وراء قواعد إجرائية ضرورية، بل لا يستغنى عنها لوجود الديمقراطية، كيف تتشكّل وتعبّر عن نفسها وتطبّق إرادة تمثل مصالح الأكثرية وتمثل في الوقت ذاته وعي الجميع في أن يكونوا مواطنين مسؤولين عن النظام الاجتماعي. (تورين، 2000 ترجمة، صفحة 15)

قبل ذلك نبّه سعاده إلى انحراف الديمقراطية الغربية ودعا إلى إزالة الخلل والفساد الذي لحق بها نتيجة الفلسفة الفردية الليبرالية المتوحشة التي سهّلت للطبقة الرأسمالية استغلال الطبقات الشعبية والأمم الضعيفة ونهب مواردها.

ويقول إن الديمقراطية التي خبرتها الشعوب المتمدنة، حتى اليوم، لم تتمكن من حل الأضاليل الاجتماعية – الاقتصادية التي نشأت مع تقدّم عهد الآلة. فقبل الحرب العالمية الثانية، كانت أوروبة وأميركة ما عدا روسية وألمانية وإيطالية، تعيش في ظل الديمقراطية. ولكن شعوبها كانت متعبة، رازحة. وبلغت أوروبة بديمقراطيتها الفاسدة حضيض الفوضى. والديمقراطية الرأسمالية، أصبحت كابوس العامل والفلاح. وهذه الديمقراطية سهّلت، للمحافظين الإقطاعيين، والرأسماليين، في بريطانية، والرأسماليين في الولايات المتحدة، الوصول إلى ثرواتهم الفاحشة من أسهل الطرق. (سعاده، الأعمال الكاملة 6، 2001، صفحة 93)

توزيع الثروة عالمياً

التفاوت الحالي في توزيع الثروات بين المجتمعات أو داخلها هو الأكبر والأخطر في تاريخ البشرية.

1٪ ينالون 43 ٪ من الثروة العالمية، فيما ينال80٪ من الناس 6٪

300 شخص، من كبار أغنياء العالم يملكون من الثروة العالمية قدر ما يملكه 3 مليارات نسمة.

منذ 200 سنة، كانت البلدان الغنية أغنى من البلدان الفقيرة بثلاثة أضعاف، وفي حقبة ما بعد التحرّر من الاستعمار في الستينيات صار الفارق 35 ضعفا، وهو الآن 80 ضعفا.

يقدّم العالم الغني للعالم الفقير 130 مليار دولار سنوياً على شكل مساعدات من أجل “تنميته”. لكن العالم الغني يتلقى سنوياً من العالم الفقير 2 تريليون دولار بثلاث طرق رئيسة:

900 مليار عائدات الشركات العابرة للجنسيات، بواسطة شكل من التحايل على دفع الضرائب يسمّى سوء تسعير تجاري.

600 مليار خدمة ديون.

يخسر العالم الفقير 5. (الاحصائيات من إعداد جيسون هيكل، الأستاذ في كلية لندن للاقتصاد، بناء على إحصائيات الأمم المتحدة) (عامر 2-5-2014)

التفاوت الكبير بين الفقراء والأثرياء هو بطريقة أو بأخرى انتهاك لحقوق المواطنة وكرامة الإنسان.

تتعرّض حقوق المواطن إلى الانتهاك في العديد من الدول حيث تسيطر العصبيات الدينية والطائفية والعشائرية والاتنية وغيرها من العصبيات المحلية التي تقوم على العنصرية والتمييز، والتي تتناقض بطبيعتها مع مفهوم المواطنة. وبالإضافة إلى انتهاك حقوق المواطن لا بدّ من الإشارة إلى انتهاك حقوق الدول والمجتمعات من قبل الدول المسيطرة في النظام الدولي. ولكن تبقى هناك بعض الدول التي حققت تقدماً كبيراً في مجال حقوق المواطن، وذلك بعد نضال كبير وصراع مرير ضد سلطات الاستبداد السياسي والديني بين القرن الثامن عشر والقرن العشرين. وتبقى دول أخرى وأحزاب وجمعيات تسعى لتحسين حقوق الإنسان المواطن.

دول العالم الثالث

الدول القومية التي ظهرت في القرن العشرين، في العالم الثالث لم تأت وليدة تطور اجتماعي داخلي، بل جاءت في أحيان كثيرة وفقا لإرادة المستعمر. وقد ورثت هذه الدول مخلفات الماضي وأوزاره وعصبياته، فكانت قومية من حيث الشكل فقط، ومحكومة بكثير من عوامل الجهل والبدائية والتخلف.

ان تخلف هذه الدول نابع من كونها لا تزال تعيش ثقافة القرون الوسطى بمفاهيمها وروابطها وهي لم تستطع دخول الثورة الصناعية وتحقيق النهضة اللازمة، وتبقى أسيرة الاستلحاق والاستتباع للنظام العالمي. وتعاني هذه الدول بمعظمها ومن ضمنها الدول العربية من مشاكل عديدة على المستويات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.

بنية هذه الدول وثقافتها محكومة بالعداء أو التجاهل لثقافة المواطنة وقيمها. تفكك اجتماعي حيث تغلب فيها العصبيات المحلية: عرقية، قبلية، دينية، طائفية ومذهبية.

الدولة تحكم مكاناً جغرافياً محدداً، أي أنها من حيث الشكل جاءت على نسق الدولة – الأمة التي ظهرت في الغرب. ولكن مضمونها محكوم بانتماءات وولاءات سابقة على مفهوم الدولة الأمة. إنها لا تزال محكومة بهوية الدم وهوية الدين، ولا تزال قوانينها وتشريعاتها متناقضة مع أغلب مواد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي يجسد مفهوم المواطنة في الدولة الحديثة، حيث الانتماء للمكان للوطن هو الأساس دون تمييز بين الناس في العرق أو الدين أو الجنس او أي شيء آخر.

وفي لبنان نشأت الطائفية السياسية مع التدخلات الأجنبية وربط مصير كل طائفة بدولة أجنبية. النظام السياسي الطائفي لم ينشأ بإرادة داخلية بل نتيجة تدخلات خارجية بالتعاون مع قوى محلية. هناك باستمرار لعبة الاستقواء بالخارج. والنظام الطائفي لم يجلب الأمن والاستقرار ولم يحقق العدالة.

الطائفية تتناقض بطبيعتها مع الديمقراطية والمواطنة ومع مفاهيم الدولة الحديثة.

الانطلاق من مصلحة الطائفة في مجتمع تتعدّد فيه الطوائف والمذاهب، يؤدي حتما إلى التطاحن بين هذه الطوائف ويدمر الدولة والوطن. الطائفية في لبنان تتغلل في كل مفاصل المجتمع: في الاجتماع والاقتصاد والثقافة والإدارة والسياسة ولا يسلم منها أي قطاع. تستند الطائفية الى رابطة الدم والدين ونمط معرفة ينطلق من مسلمات غيبيّة وتنتشر فيه العقلية الخرافية والانفعالات الغرائزية.

الدول السابقة للدولة الديمقراطية الحديثة كانت تجسّد ارادة فئوية وخاصة ولم تكن تعبر عن إرادة الناس المخضعين لها.

الدولة القومية هي التنظيم السياسي الخاص بالأمة، الذي أعطى الأمة حيوية لم تعرفها في السابق، وأكد مبدأ سيادة الأمة على نفسها وهذا ما حرّر الشعب من أوهام السلطة الخارجية، سواء استندت الى سلطة غيبية أو الى سلطة واقعية خارج الأمة. وهذا ما رسخ مفهوم المساواة وحرر الدولة من الإرادات الخصوصية، فأصبحت الدولة بصفتها المظهر السياسي والحقوقي للأمة هي المعبر عن إرادتها. وهذا ما أعطى المواطنة مفهومها ودلالاتها الحديثة.

المجتمع هو بيئة الاجتماع التي تشكل دورة عمران متواصلة، ودورة حياة واحدة لكل البشر الذين يعيشون في هذه البيئة الواحدة. والمجتمع هو مجمّع المصالح الأساسية الكبرى التي تهم الجميع والتي لا غنى عنها لاستمرار الحياة وتقدّمها فيه.

العصبيات الدينية والدموية تتجاهل حقيقة الواقع الاجتماعي وتتقاتل على تصورات وهمية: العقائد الدينية وعقائد أفضلية العرق والسلالة، لا تخضع لحكم العقل ولا للبرهان العلمي، ولا تقبل بالاختلاف والتمايز وتعتمد على إثارة الغرائز، وشيطنة الآخر والتخويف منه، وتجهيل الناس.

لا يوجد مجتمع في العالم، باستثناء بعض القبائل المعزولة في الغابات والأدغال، لا تتعدد فيه الأديان والمذاهب، والاتنيات والأصول، وتتعدد فيه الاتجاهات والآراء. ولكن يبقى المجتمع أساس وحدة المصالح الكبرى التي تهمّ جميع المواطنين، إضافة إلى مصالح فرعية وثانوية تهم الأفراد والفئات، تسعى الدولة إلى تنظيمها لتأمين العدالة الاجتماعية والاقتصادية، وضبط الاستقرار والأمن الاجتماعي. إن اعتماد الهويات الدينية أو المذهبية أو العرقية أو غيرها من الجماعات الفرعية، أساسا لتحديد المصالح سيؤدي حتما إلى التصادم وخراب المجتمع.

الديمقراطية والدولة الحديثة ومعها المواطنة تستلزم التفكير العقلاني ونمط المعرفة العلمية وتجاوز العصبيات المحلية من خلال المؤسسات التوحيدية الجامعة على مستوى الوطن. والتركيز على دور التربية ومؤسسات التنشئة الاجتماعية في بناء المواطن واقامة المؤسسات والمصالح الاقتصادية المشتركة العابرة للمناطق والطوائف. وتلعب التربية الدور الأساس في انتقال الفرد من كائن أناني إلى كائن غيري إيثاري. تعلّمه التربية أن مصلحته الحقيقية تتأمن بطريقة أفضل من خلال الشعور بمصالح الجماعة واعتبار أن تحققها هو الأساس لتحقيق مصالح الجميع، ومنها مصلحته. فالصراع بين غريزة وأخرى، كحال الصراع بين القبائل والطوائف، يؤدي إلى الدمار والهلاك. بينما الصراع الفكري يؤدي إلى التقدم والتطور من خلال الحوار والنقد العقلاني لما هو أفضل لخير المجتمع، وبدلا من قتل الإنسان تموت الفكرة غير الصالحة لمصلحة الفكر الأرقى.

مشكلة حقوق الإنسان في الدول الغربية تعود إلى النزعة الاستعمارية التي انتهجتها هذه الدول تجاه المجتمعات الأخرى وازدواجية المعايير التي تنطلق منها وسياسة الهيمنة المالية والاقتصادية التي تمارسها، والفلسفة الفردية الليبرالية التي لا ضوابط لها، وهي أبعد ما تكون عن مفهوم المصلحة العامة. فماذا نرجو من دول يحوز فيها عدد محدود من الناس على موازنات تفوق موازنات عدة دول بشكل كبير؟

إنّ السلام الحقيقي الثابت في العالم، لا يمكن أن يتم على أساس الحجج التي يستعملها هذا الفريق الاستعماري أو ذاك الفريق الاستعماري. السلام الحقيقي الثابت لا يتم إلا على أساس اعتراف كل من الفريقين المتحاربين لشعوب العالم الحرة بحق الحياة كشعوب حرة وليس كشعوب مستعبَدة، ويدخل في ذلك عدم الاستعباد الاقتصادي.” (سعاده، الأعمال الكاملة 4، 2001، صفحة 148)

القومية الاجتماعية هي الفلسفة التي جاء بها أنطون سعاده (1904-1949) الذي جرى اغتياله من قبل أركان النظام الطائفي اللبناني في 8 تموز 1949.

يؤكد سعاده على حرية الأفراد وربطها بحرية الأمة، وعلى المساواة التامة بين جميع أبناء المجتمع دون تمييز على أساس الجنس، أو الأصل، أو الدين أو الطائفة أو المذهب، أو الوضع الاجتماعي. المساواة في الحقوق المدنية والسياسية والقانونية وعلى العدل الاجتماعي والعدل الاقتصادي والعدل الحقوقي. يؤكّد على محاربة النزعة الفردية وعلى التربية المدنية وإعطاء الأولوية للمصلحة العامة وتعزيز الوجدان القومي. ويؤكّد أن السلام بين الأمم يكون بترك حرية المصير لكل أمة وعدم ممارسة الاستعباد السياسي أو الاقتصادي.

بدأ سعاده الكتابة في الفكر السياسي وفي الشؤون الوطنية والقومية في عمر مبكر، حيث تعاون مع والده العلامة الدكتور خليل سعاده الذي كان طبيباً ومفكراً سياسياً واجتماعياً. كانت سورية خاضعة للانتدابين الفرنسي والبريطاني اللذين عملا على تقسيمها إلى مجموعة دول بموجب اتفاقية سايكس بيكو 1916 التي تلاها وعد بلفور بإعطاء فلسطين المعروفة بسورية الجنوبية إلى اليهود. كانت سورية لا تزال تعيش ثقافة القرون الوسطى بعيدة عن التطورات الفكرية والسياسية والاجتماعية التي شهدتها أوروبا منذ بضعة قرون.

واقع المجتمع السوريّ، كما يصفه سعاده، كان بعيداً عن مفهوم المواطنة الذي بدأ في الغرب. ويشير إلى:

“خلو مجتمعنا القومي، مدة أجيال وقرون طويلة، من مؤسسات قومية بالمعنى الصحيح ومن تقاليد قومية عامة يصح الاستناد إليها. الشرع كله ديني أو طائفي وليس قومياً عاماً. وفي هذه الحالة لا يجد عضو الدولة (Citizen, Citoyen) حقاً عاماً يستند إليه ويساوي بينه وبين جميع مواطنيه. وفيها يكمن سرّ من أعظم أسرار القضايا أو المشاكل النفسية ـ الاجتماعية ـ الحقوقية”. (سعاده، الأعمال الكاملة 8، 2001، الصفحات 226-227)

ويعتبر أن المشاكل الأساسية للأمة السورية تكمن في قضيتين أساسيتين:

  1. قضية المجتمع بكامله: وجوده وشخصيته الحقوقية والسياسية.

 

 

 

4-المواطنة في القومية الاجتماع

 

 

 

  1. قضية نفسية المجتمع ومناقبيته. (سعاده، الأعمال الكاملة 8، 2001، الصفحات 310-311)

 

مفهوم المواطنة غائب والتفكك الاجتماعي والنفسي يسود بشكل واسع والهويات الطائفية والمذهبية والأثنية والعشائرية مسيطرة، والطبقة السياسية مرتهنة للخارج بولاءات متعددة.

يُعيد سعاده، فكرة الديمقراطية العصرية، التي تعني تمثيل الإرادة العامة في الحكم، إلى الثورتين الأميركية والفرنسية. وهذا يعني جعل الإرادة العامة للشعب، للأمة. (سعاده، الأعمال الكاملة 8، 2001، صفحة 89). ويفسّر عوامل هذه الظاهرة، بنشوء المدن ونموها والعمل الصناعيّ والاتجار التي أوجدت المحيط والجو الصالحين لحرية العمل وتبادل الأفكار والمعارف. إن المدينة كانت دائماً أصلح مكان لنمو الفكرة الديمقراطية. وهي المكان الوحيد الذي يمكن أن تتمركز فيه الحياة السياسية. وظهور الحركات الاجتماعية والسياسية التي أعدّت لعصر جديد هو عصر الديمقراطية ونشوء القومية، التي عيّنت شكل دولة البلاد العصرية ووسعت دائرة المساهمة في الدولة أو محدوديتها إلى حدود لم تكن معروفة من قبل. الدولة الحديثة قائمة على مبدأي القومية والديمقراطية. (الأعمال الكاملة 3، 2001، صفحة 105)

الدولة الديمقراطية هي دولة قوميّة حتماً، فهي لا تقوم على معتقدات خارجية أو إرادة وهمية، بل على إرادة ناتجة عن الشعور بالاشتراك في حياة اجتماعية اقتصادية واحدة. الدولة أصبحت تمثل هذه الإرادة. فتمثيل الشعب هو مبدأ ديمقراطي قومي لم تعرفه الدول السابقة.

تحت عامل القوميّة الظاهر في تولّد روح الجماعة والرأي العام، تغيّر معنى الدولة من القوة الحاكمة المستبدة إلى سيادة المتحد وحكمه نفسه. والوسيلة التي مكّنت المتحد من تحقيق هذا المبدأ الجديد هي التمثيل السياسي الذي مكّن من الفصل بين السلطة الاشتراعية والسلطة التنفيذية وترجيح كفة السلطة التشريعية، لأنها تمثل إرادة الشعب. كانت الدولة قبل نشوء القومية إرادة خصوصيّة تفرض نفسها على المجموع الذي تشمله، أما بعد نمو القومية فقد أصبحت النظام والهيئة الممثلين لإرادة الأمة. (سعاده، الأعمال الكاملة 3، 2001، الصفحات 111-112)

يعرّف سعاده الدولة بأنها جمعية الشعب الكبرى، وكل فرد من أفراد الشعب مشترك في حياة الدولة هو عضو في الدولة.

الوجدان القومي والنزعة الفردية

غياب المصلحة العامة وسيطرة النزعة الفردية يدمّران أسس الاجتماع ويمنعان قيام الديمقراطية والمواطنة.

في كتاباته المبكّرة قبل تأسيس الحزب يشدّد على أهمية التفكير العملي المجموعي كمقابل للتفكير العملي الفردي، وعلى إحلال المصلحة العامة محل المصلحة الخاصة. يقول: “أول ما يجب أن نبدأ به هو أن نحوِّل التفكير النظري، الذي لا يحقق شيئاً بذاته، إلى تفكير عملي يدفعنا إلى العمل على تحقيق ما نؤمن به ونعتقد بصلاحه. «العمل للخير العام في ظل السلام والحرية» وهو أجمل المثل العليا للحياة الإنسانية، ولكن تحقيقه يحتاج إلى تفكير عملي مجموعي. أقول تفكير عملي مجموعي لأجعل منه ما يقابل التفكير العملي الفردي. الأول يتناول المجموع وينعكس على الفرد، والثاني ينحصر في الفرد وقد يؤول إلى أذيته من حيث لا يدري، لأن ما لا يعود على المجموع بالخير لا يعود بالخير على الأفراد، وإذا ظهر أنّ بعض الأفراد استفادوا منه ففائدتهم إلى حين، ثم ينقلب الخير إلى شر عليهم أو على أبنائهم. إنّ أكثر مصائبنا هي من فقدان الهدف المجموعي في هيئتنا الاجتماعية. والذي أراه أنّ أقدس واجبات الشبيبة السورية هو أن تحل المصلحة العامة محل المصلحة الخاصة”. (سعاده، الأعمال الكاملة 1، 2001، صفحة 397)

يؤكّد في مقدمة كتابه نشوء الأمم على ظاهرة الوجدان القومي الذي يشكل الأساس في ثقافة المواطنة. ويشدّد على محاربة النزعة الفردية التي تمثل التهديد الأخطر لوحدة المجتمع وتعمل على تفكيكه.

المواطنة لا تتحقق بالانتخاب المحكوم بالعصبيات والأحقاد والأنانيات الهدامة دون أي وعي بالمصالح العامة التي تهمّ الجميع. ويشير إلى الانتخابات في لبنان وهزالها وسخافتها وتناقضها مع ثقافة المواطنة وحقوقها. ويربط التصويت كحق للمواطن بوجود الحريات الأساسية، ومبدأ التضامن الاجتماعي والنظر في المصلحة العامة، وبالتالي فإن غياب هذه العناصر يفقد هذا الحق قيمته وتفقد الديمقراطية قيمتها.

يقول بهذا الصدد: “التصويت الموقوت هو أحد الحقوق الأساسية التي يمارس الشعب بواسطتها سيادته في الدولة البرلمانية الانتخابية. وهذا الحق هو في الحقيقة تكميلي لحقّ طويل عريض يبتدئ في الحريات الأساسية التي يقوم عليها المجتمع الحر المتضامن. وبدون هذه الحريات الأساسية يكون التصويت تشبيهاً لممارسة السيادة.

وإنّ من ضروريات ممارسة السيادة، بواسطة التصويت الشعبي العام أن يكون المجتمع حاصلاً على تربية قومية صحيحة توجّه الفرد نحو النظر في مصلحة المجموع دائماً، وتضع في ضميره مبادئ أساسية لا يحيد عنها، وتكون هي هدفه الأخير. فهل هذا هو الواقع في تصويت المعدود اللبناني؟

المعدود اللبناني ينتخب على أساس المنفعة الفردية أو العائلية أو الطائفية. وفي انتصار فريق من المرشحين على فريق آخر لا تنتصر مبادئ ونظريات على مبادئ ونظريات، بل تظفر غايات خاصة بغايات خاصة فتتحول منافع الإدارة العامة إلى فريق من أبناء البلاد دون فريق آخر. فالنزاع أبداً قائم على هذا الشكل. أما التصويت فليست له قيمة ديموقراطية على الإطلاق لعدم استكمال شروطه”. (سعاده، الأعمال الكاملة 2، 2001، صفحة 193). وكذلك الانتخابات النيابية والانتخابات الاختيارية، حيث تتحكّم المصالح الشخصية والعصبيات والأحقاد، وتغيب المبادئ والعقائد.

يقول عن انتخابات المختارين:

“انتخابـات الـمختارين هي صـورة مصغَّرة لانتخابـات النواب. فالـمبادئ عينها التي تتّبع هناك تتّبع هنا، فليس ما يؤلب جيل الغفلة القومية على الـمرشحين مبدأ يعلنونه أو عقيدة يتمسكون بها، بل يؤلّبهم طمعهم بعضهم في بعض وعداواتهم بعضهم لبعض وتزاحمهم على فتات موائد الاستعمار التي لا تكفي سداً لرمق قسم من الشعب، فهم يتـذابحـون عليهـا فيمـا بينهم ولا يفكـِّرون في جمـع أمـرهم على منـازعـة الأطمـاع الاستعمارية عليها، بل هم في غفلة عن هذه الأطماع إلا دهاقنة سياسة العقلية العتيقة التقهقرية، فهؤلاء يعرفون الأطماع الأجنبية ويسارعون إلى تأجير أنفسهم لـخدمتها وتسليم الشعب إلى عبوديتها!

الـمختـاريـة في أيدي أصحـاب الأطمـاع الشخصيـة والعائليـة هي وسيلة لهضم حقوق الغائبين، وللظلم والعدوان على الـحاضرين وسلب الأرزاق. والنيابة في حوزة السياسييـن الشخصيين والإقطاعيين هي وسيلة لبيع حقوق الشعب إلى الرأسمال الأجنبي، ولتمكينه من موارد الأمة وكنوز الوطن” (سعاده، الأعمال الكاملة 8، 2001، صفحة 378)

ويحذّر من خطر ظاهرة النزعة الفردية المنتشرة في معظم الأوساط، ويعتبر أن “النزعة الفردية تقود حتماً إلى عدم الشعور بالمسؤولية. وخطر الاحتلال الأجنبي من الخارج، أما خطر النزعة الفردية على سلامة المجتمع فمن الداخل”. (سعاده، الأعمال الكاملة 6، 2001، صفحة 156)

وتشكّل النزعة الفردية خطراً يهدّد النظام الاجتماعي العام.

“النزعة الفردية هي العدو الأول لكل غاية مجتمعية والعقبة الكأداء التي تعترض نشوء النظام الاجتماعي العام. فطبيعتها مخالفة لطبيعة الاجتماع، لأنها ترمي إلى جعل السيادة في الفرد نفسه وليس في المجتمع ونظامه. ولما كان الأفراد غير موجودين إلا في الجماعة، كانت النزعة الفردية، التي تعدّ الفرد كل شيء في العالم، أكبر عامل تفكك وهدم لكيان الجماعة. (سعاده، الأعمال الكاملة 6، 2001، صفحة 185)

الفردية غير المسؤولة هي من أسوأ أمراض المجتمع النفسية ومن أكبر قضاياه الاجتماعية والسياسية. فإذا تحكَّمت هذه الفردية الهدّامة في مصير شعب وسخّرته لأغراضها الشخصية ومقرّراتها التحكمية قادته إلى الخراب والذل. (سعاده، 2001، صفحة 351)

لا تزول القضايا الشخصيّة باقتسام السلطة التنفيذية أو بتوزيعها على عدد من الأشخاص. فمجموع أشخاص لا يساوي إلا قضايا شخصية!

ليست قضية الأمة مجموعة قضايا شخصية، فقضية الأمة هي قضية غاية ومبادئ قومية كلية، ولا يمكن أن تسير أمة إلى الفلاح والمجد إلا عن طريق قضيتها الكلية. يجب أن ينتهي دور تحكم الأفراد الغامض المبادئ، الغامض المقاصد، في الشعب ومصيره. ولا ينتهي هذا الدور إلا بالإقبال على مبادئ الحياة القومية الاجتماعية. (سعاده، 2001، صفحة 352)

الفردية، خصوصاً في بلاد كبلادنا، لم تكن لها تربية قومية ولا وعي قومي، ولم تتمكن أن توقظ شيئاً قومياً لا في طلبة المدارس ولا في فئة ولا في مجموع. ينشأ الفرد منا في حالة من هذا النوع غير شاعر إلا بمسائل وقضايا محدودة تختصّ بدائرته هو، مصيره هو، مهما كان مصير مجموع الأمة، مجموع الدولة أو الجماعة الكبرى. الرأسمالي عندنا أشد الناس ابتعاداً عن الاهتمام بأية قضية قومية أو وطنية أو بأي مصير للجماعة القومية. إنّ تخطيطه تخطيط فردي محض والمصلحة مصلحة فردية محضة، ولذلك لا يحجم حتى عن التحالف مع أي رأسمال أجنبي مجموعي. ضد مصلحة المجموع الذي هو أحد أفراده. (سعاده، 2001، صفحة 110)

الحقوق السياسية والحريات

ترتبط الحقوق بالدولة ذات السيادة الحقيقية والاستقلال الصحيح والتي لا تستند إلى نفوذ أجنبي.

على أساس وحدة اجتماعية صحيحة، يمكن إنشاء دولة قومية صحيحة وتشريع قومي اجتماعي مدني صحيح، ففيه أساس عضوية الدولة الصحيحة وفيه يؤمّن تساوي الحقوق لأبناء الأمة، دون أي تمييز على أساس الدين أو الطائفة والمذهب أو العرق أو اللغة أو الجنس. إن التساوي في الحقوق والتوحيد القضائي هما أمران ضروريان لنفسية صحيحة موحّدة. (سعاده، الأعمال الكاملة 8، 2001، صفحة 73)

“إنّ الأحوال القومية المدنية والحقوق العامة لا يمكن أن تستقيم حيث القضاء متعدّد أو متضارب ومقسّم على المذاهب الدينية، الأمر الذي يمنع وحدة الشرائع الضرورية لوحدة النظام”. و”لا بد، للدولة القومية الاجتماعية، من وحدة قضائية – وحدة شرعية. وهذه الوحدة، التي تجعل جميع أعضاء الدولة يحسون أنهم متساوون أمام القانون الواحد، هي أمر لا غنى عنه. (سعاده، الأعمال الكاملة  8، 2001، الصفحات 98-99).

الأمة والدولة لا تعرفان في الدولة إلا أعضاء متساوين في الحقوق والواجبات. فإذا كان الشرع دينياً يصبح لكل جماعة دينية شرعها (سعاده، الأعمال الكاملة 8، 2001، صفحة 395)

و(سعاده، الأعمال الكاملة 8، 2001، الصفحات 459-460)

المنافع الخصوصيّة المستعجلة لا يمكن أن تكون أساساً للسيادة القومية وحفظ المصالح العامة. حتى الأمم العريقة في الديمقراطية كثيراً ما تكون فريسة في كثير من المصالح للشعوذات التي يقوم بها مهرة متخصّصون في استخدام المبادئ العامة. ولكن قضية الشعب عندنا ليست فقط في الأساليب، بل في الأساس. في العقائد الأساسية ومعتقديها.

(سعاده، الأعمال الكاملة 2، 2001، صفحة 194)

ينتقد سعاده النظام الاجتماعي العائلي لأنه قائم على مبادئ فاسدة تؤدي إلى قهر النفس، ولا يمكن لهذا النظام أن ينشئ أناسا أحراراً.

“من مظاهر هذا النظام الفاسد أنّ الأب يقهر ابنه في بعض رغباته الفنية أو العلمية بدلاً من أن يجتهد في تقويم ما اعوجّ منها وتسديد خطواته في السبل المؤدية إلى تحقيقها. ونرى الأب يقهر الأم في كثير من الأمور الحسنة التي ترغب فيها. ونرى الأب والأم يقهران الإبنة في أعظم رغباتها شأناً في حياتها ويقرّران مصيرها تقريراً يسحق عواطفها ويجرّدها من كل إرادة في الحياة، فتصرف بقية حياتها منكسرة القلب حزينة النفس. قولوا لي، أيّها السادة، هل يمكن هذه الآنسة متى أصبحت أماً أن تغذي أبناءها بروح الثقة بالنفس والاعتماد على النفس وحرية الفكر وحرية التصرّف وسائر الفضائل التي بدونها تكون الحياة عديمة الجدوى، عديمة الارتياح، عديمة السعاده، عديمة المعنى، اللّهمّ إلا معنى الخمول والذل والانحطاط والعبودية؟ وهل يمكن الأطفال النامين تحت ضغط القهر وإذلال النفس أن يخرجوا رجالاً ونساءً أحرارا؟” (سعاده، الأعمال الكاملة 1، 2001، صفحة 394)

الحرية يجب أن تكون في الحياة القومية الحرة.

“لم تعد الأمة بعد هذا اليوم تتسقط الفتات عن موائد حريات الأمم الأجنبية، بل أصبحت تشترك مع الأمم الحرة بمجهودها هي في سبيل الحرية.
بعد هذا اليوم لم تعُد كرامتنا القومية مستمَدّة من كرامة أخلاق الغير، بل من قيامنا بمتطلبات الحياة القومية الحرة”. (سعاده، الأعمال الكاملة 2، 2001، صفحة 277)

ويطالب بالحرية للجميع فيقول:

“لا أنكر على غيري من اللبنانيين إبداء رأيه فيما يختص بمصير الشعب في لبنان، ولكنني أنكر على كل لبناني آخر ادعاءه التكلم باسم لبنان واللبنانيين أكثر مني. فلبنان ليس ملكاً خاصاً لبعض سكانه بل هو حق عام لجميع أبنائه الذين يجب أن يكونوا أحراراً للتفكير في مصيرهم في الاعتقاد الذي يجدونه أفضل لحياتهم. وما إنكار جماعة من اللبنانيين على السوريين القوميين في لبنان حق التفكير في مصير الأمة السورية، ومن ضمنها اللبنانيون، إلا ادعاء باطل وغطرسة بعيدة عن الحق ومحاولة استبدادية لم يسمع بمثلها. فنحن لا ننكر على أحد حق مناقشتنا في عقيدتنا وكذلك نريد إلا ينكر غيرنا علينا حق مناقشته في رأيه وتفكيره الذي يتعلق بحياتنا نحن ومصير حياتنا لأننا من هذا الشعب”. (سعاده، الأعمال الكاملة 3، 2001، صفحة 386)

وفي بيان الحزب القومي النيابي 1947 تتجلى حقوق المواطنة في كل مستوياتها:

يطرح: فصل الدين عن الدولة، ضمان الحريات الأساسية، الإصلاح الاجتماعي، إلزامية ومجانية التعليم، الإصلاح الاقتصادي – صيانة العمل والعمال من إجحاف استبداد الرأسماليين وإقامة العدل الاجتماعي. حماية الفلاحين من الطغيان الإقطاعي وتثبيت حقوقهم ونصيبهم العادل في إنتاجهم وإحاطتهم بالعناية الثقافية والصحية، إيجاد التمثيل المسؤول لمصالح الشعب بواسطة الأحزاب ذات الأهداف القومية والمناهج الشعبية العامة.  – إلغاء التمثيل الطائفي وإقامة التمثيل القومي. – ضمان حرية الرأي والقول والاجتماع. (سعاده، الأعمال الكاملة 7، 2001، الصفحات 248-251)

لا حلَّ لمشاكل سورية الدينية والاجتماعية غير حلّ القومية الاجتماعية التي تفرض إنشاء كيان يكون فيه جميع أبناء الأمة أحراراً متساوين في الحقوق والواجبات. (سعاده، الأعمال الكاملة 6، 2001، صفحة 167)

ينتقد سعاده واقع المجلس النيابي في لبنان لأن أساليب التمثيل غير صالحة لأنها تجعل التمثيل للطوائف بدلاً من الأحزاب، وللأشخاص بدلاً من البرامج الحزبية. (سعاده، الأعمال الكاملة 2، 2001، صفحة 13)

ويقول بوجوب فسح المجال للأحزاب لأن الأحزاب هي الطريقة الوحيدة لجعل النظام البرلماني صالحاً لتمثيل مصالح الدولة وإرادتها. (سعاده، الأعمال الكاملة 2، 2001، صفحة 139)

إن الدولة التي تمنع فيها حرية إبداء الرأي والاجتماع وتأليف الأحزاب السياسية دولة لا قيمة تمثيلية لمجالسها النيابية. (سعاده، الأعمال الكاملة 2، 2001، صفحة 87)

يربط سعاده حرية الفرد بحرية الأمة فلا معنى لحرية فردية خارج حرية الأمة. إذا لم تكونوا انتم أحرارًا من أمة حرة، فحريات الأمم عار عليكم. (سعاده، الأعمال الكاملة 2، 2001، صفحة 364)

ويتحدّث عن تجاوز الحكومة صلاحياتها واستبدادها:

“إن لكل حكومة حداً تقف عنده فيما يختص بأمر تقرير المصير العام الأخير الذي هو مصير الشعب، لا مصير الحكومة. وكل حكومة تحاول أن تربط مصير الشعب بمصيرها هي تكون حكومة خائنة مصلحة الدولة. والحكومة التي تمنع أعضاء الدولة من التفكير في مصير دولتهم ومن استعمال حقوقهم المدنية والسياسية في تقرير هذا المصير حكومة قد تجاوزت حدودها وخرقت حرمة المبادئ التي تقوم هي نفسها عليها وعصت إرادة الشعب الذي له وحده حق تقرير مصيرها ومصيره”. (سعاده، الأعمال الكاملة 2، 2001)

الديمقراطية التعبيرية – تحقيق المصلحة العامة

يطرح سعاده ما يسمّيه الديمقراطية التعبيرية بديلاً عن الديمقراطية التمثيلية، ويقول:

إن الديمقراطية الحاضرة قد استغنت بالشكل عن الأساس، فتحوّلت إلى نوع من الفوضى لدرجة أن الشعب ذاته أخذ يئن من شلل الأشكال التي أخذت على نفسها تمثيل الإرادة العامة. العودة إلى الأساس والتعويل على “التعبير عن الإرادة العامة” بدلاً من “تمثيل الإرادة العامة” الذي هو شكل ظاهري جامد.

الإرادة العامة إذا لم تجد “التعبير” الصحيح في فكرة واضحة وقيادة صالحة تصبح عرضة لأن تقع فريسة للمطامع والمآرب التمثيليّة. التمثيل شيء جامد يتعلق بما حصل، أما التعبير فغرضه الإنشاء وإدراك شيء جديد.

يجب إنقاذ الديمقراطية من الهلاك. وذلك بإزالة ما دخل إليها من الفساد، وإدخال تفكير ينطبق على ما وصل إليه الناس من العلم والمعرفة، فتصير صالحة لنفع الإنسان وتكفل حقوق الإنسان من كل مهاجمة وتعدّ. (سعاده، الأعمال الكاملة 7، 2001، صفحة 38 و41)

التعبير عن الإرادة العامة يعني تحديد المصلحة العامة والعمل لها. والمصلحة العامة هي المصلحة الدائمة غير العرضية والوقتية، مثل مصلحة المتحد أو مصلحة القطر والدولة ومصلحة المجتمع. فالديمقراطية هي في الأساس التعبير والعمل للمصالح العامة وليس مجرد وصول أكثرية تستبد بالأقلية وتضعها هامشاً وتحوّل المصالح العامة إلى مصالح خاصة. لأن تأمين المصالح العامة في الأولوية هو الضمانة لتأمين المصالح الفرعية والجزئية والفردية ولا يعكس.

يؤكّد سعاده على الأخوّة القوميّة ويقول: “ما معنى الأخوّة القوميّة حين أقول لك أنت أخي وأحرمك بالفعل من حقوق الأخوة معي؟ وكيف يمكن أن يكون للأخوّة معنى مع الحرمان للأخوّة؟

“يجب أن نقف في العالم أمة واحدة، لا أخلاطاً وتكتلات متنافرة النفسيّات. فيجب تحطيم الحواجز المذكورة لجعل الوحدة القومية حقيقة ولإقامة النظام القومي الاجتماعي الذي يهب الأمة الصحة والقوة”. (سعاده، الأعمال الكاملة 8، 2001، الصفحات 100-101)

“ثروة الأمة العامة يجب أن تخضع لمصلحة الأمة العامة وضبط الدولة القومية”. (سعاده، الأعمال الكاملة،  8، 2001 صفحة 109)

إقامة العدل الاجتماعي ـ الحقوقي والعدل الاقتصادي ـ الحقوقي أمر ضروريّ لفلاح النهضة السورية القومية الاجتماعية. ولا مناص لنا من الاعتقاد بوحدة المصالح التي هي مصالح الأمة، مصالح الجماعة الكبرى، وليس مصالح فردية معيّنة للأفراد بأنفسهم. (سعاده، الأعمال الكاملة  8، 2001، الصفحات 111-112)

نقول بالحق والعدل الذي يجعل مجموع الشعب في حالة خير وبحبوحة فلا يكون أناس في السماء وأناس في الجحيم. إنّ سوء الحالة الاقتصادية ليس من الآلة بل من النظام السيّئ الذي تنمّيه النظرة الفردية اللامسؤولة عن المصير القومي في استخدام الآلة الحديثة. ونهضتنا تريد أن تضع حداً لهذا الاستعباد ولأصحاب الرساميل الفردية الذين يستعبدون بواسطتها الناس. نهضتنا تريد أن تحرّر الآلة من استبداد النظرة الفردية، لأن بتحريرها تحرير مئات وألوف من الناس. والذين يحرمون من أعمالهم بسبب الآلة، تصرفهم نهضتنا إلى أعمال أخرى ولكنها لا تحرمهم، من مجرّد اتجاههم إلى أعمال أخرى، من نصيبهم من الإنتاج الذي تشكّل الآلة نصيباً كبيراً منه. (سعاده، الأعمال الكاملة  8، 2001، الصفحات 115-116)

العدل الاقتصاديّ

يركز سعاده على وحدة المجتمع ووحدة العمل ضمن المجتمع. وعلى دور الدولة في حماية المجتمع والوعي القومي الذي يقضي على التنافر بين عناصر الأمة والناجم عن وضع اجتماعي تتنازعه العصبيات البدائية القائمة على أساس ديني أو طائفي أو دموي. مشدداً على مفهوم الأخوة القومية وتربية المواطنين على الولاء القومي وإعطاء الاهتمام اللازم لمصلحة المجموع.

“الدولة القومية تشمل المجتمع القومي كله، ذا الدورة الاقتصادية الكاملة التامة وتمثل مصالح شعب تام كامل. هذه الدولة تنظر في حالة المجتمع الاقتصادية وفي النظام الاقتصادي الذي يوفّر الاستقرار والطمأنينة والارتقاء وزيادة الخير. لا يمكن ترك مساحات واسعة من الأرض في أيدٍ فردية، يتصرّف الفرد بها وفاقاً لنظرة فردية محضة، بصرف النظر عن أية فكرة اجتماعية أو معنى أساسي عام”. (سعاده، الأعمال الكاملة 8، 2001، صفحة 103)

أول حق من الحقوق الطبيعية والاجتماعية لكل مواطن هو حق العمل والإنتاج. (سعاده، الأعمال الكاملة 8، 2001، صفحة 358)

في مقال بعنوان “العقيدة السورية القومية الاجتماعية وبحث الديمقراطيين عن عقيدة”، يشير سعاده إلى أهمية التصريحات التي أدلى بها بعض المسؤولين البريطانيين، المطالبة بتحويل السياسة الديمقراطية إلى “ديمقراطية اقتصادية” وأن لكل عضو من أعضاء الدولة الحق في “ستندرد”، أو مستوى معيشة لائقة، معيّن يشمل الصحة والنظافة ووسائل الراحة.

وأشار أيضاً إلى أهمية مقالات أستاذ العلم السياسي هارولد لاسكي، والدعوات والخطب التي ألقيت تحت ضغط الحرب والداعية إلى حل مشاكل التصادم بين العمال والرأسماليين، وتكوين عقيدة للمستقبل يحارب الشعب من أجلها. يدعو هارولد لاسكي إلى تدخل الدولة لحماية المجتمع من نتائج التنافس الحر غير المقيّد بين المصالح الخاصة وما قد يؤدي إليه من نتائج سلبية. (هارولد، الطبعة الثانية ترجمة 2012، صفحة 40)

يقول سعاده في هذا المقال إن الديمقراطية التي خبرتها الشعوب المتمدنة، حتى اليوم، لم تتمكن من حل الأضاليل الاجتماعية – الاقتصادية التي نشأت مع تقدم عهد الآلة. فقبل الحرب العالمية الثانية، كانت أوروبة وأميركة ما عدا روسية وألمانية وإيطالية، تعيش في ظل الديمقراطية. ولكن شعوبها كانت متعبة، رازحة. وبلغت أوروبة بديمقراطيتها الفاسدة حضيض الفوضى. والديمقراطية الرأسمالية، أصبحت كابوس العامل والفلاح. وهذه الديمقراطية سهّلت، للمحافظين الإقطاعيين، والرأسماليين، في بريطانية، والرأسماليين في الولايات المتحدة، الوصول إلى ثرواتهم الفاحشة من أسهل الطرق.

ويقول عن حزبه إنه الوحيد، من بين جميع الأحزاب التي نشأت في العقود الأخيرة في أوروبة وأميركة، الذي أوجد عقيدته الاجتماعية منذ أول تأسيسه. فوضع المبدأ الإصلاحي الرابع، وهو: “إلغاء الإقطاع وتنظيم الاقتصاد على أساس الإنتاج وإنصاف العمل وصيانة مصلحة الأمة والدولة”. ويشير أيضا إلى النظريات الاجتماعية الاقتصادية، من كارل ماركس وأنغلز إلى الاجتماعيين الاقتصاديين الجدد، التي ألقت نوراً قوياً على مشاكل المجتمع الإنساني الاقتصادية. ولكن الاشتراكية، لم تتمكّن من حل القضايا الإنسانية الاجتماعية المعقدة. وهنا تأتي أهمية الفلسفة السورية القومية الاجتماعية، التي تقدّم نظرات جديدة في الاجتماع، بأشكاله النفسية والاقتصادية والسياسية، وتقدّم النظرة الجامعة للمذاهب الإنسانية المتنافرة. (سعاده، الأعمال الكاملة 6، 2001، الصفحات 91-98)

عهد تحقيق مبادئ الحزب السوري القومي ــــ عهد فصل الدين عن الدولة، وجعل القومية السورية الجامعة الحقيقية للسوريين، فلا يظلون متفرقين أدياناً وشيعاً، عهد إلغاء الإقطاع وتحرير الفلاحين من استعباد الإقطاعيين وتحسين أحوالهم المعاشية والثقافية ليكونوا أعضاء عاملين في الدولة القومية. عهد إقامة العدل الاجتماعي ــــ الاقتصادي الذي يحقق أعلى مستوى من الحياة الجيدة، العامة، للأمة، عهد تنظيم الاقتصاد القومي على أساس الإنتاج ليحدث التوازن بين توزيع العمل واقتسام الإنتاج.

إن جميع السوريين القوميين يؤمنون أنهم أبناء أمة واحدة هي الأمة السورية، تجمعهم عقيدة واحدة ومصلحة واحدة وإرادة واحدة. فهم جميعهم يريدون الجميع أحراراً متساوين في الحقوق والواجبات ويرفضون أن يكون بعض الأمة عبداً لبعض أو عالة على بعض أو تحت رحمة وتساهل بعض. إنهم يخجلون من أن يروا أحداً من أبناء أمتهم غير حر متمتع بجميع الحقوق المدنية والسياسية التي لهم في الدولة.

إن الحزب السوري القومي يقول إنه يجب أن يكون لكل فرد من أفراد الأمة السورية الحق والحرية ليعتقد في الشؤون المتعلقة بما وراء المادة، كالله والسماء والجحيم والخلود والفناء، كما يريد، ولا يطلب منه إلا أن يكون قومياً صحيحاً مخلصاً لأمته ووطنه. (سعاده، الأعمال الكاملة 5، 2001، صفحة 262)

التربية على المواطنة

ترتبط حقوق المواطنة بالدولة وهي المرجعية الوحيدة التي تحدّد حقوق وواجبات المواطنين.

الدولة القومية، دولة الأمة هي النظام السياسي والحقوقي الأفضل الذي ظهر حتى الآن، ولا يمكن مقارنته بالنظم السابقة التي كانت تميّز بين المواطنين على أساس الانتماء الديني أو العرقي… والتي تجعل من الدولة إرادة خصوصية ترتبط بفئة ما أو شخص ما. ولا يمكن تصوّر نموذج أفضل يؤمن الحقوق ويعبر عن إرادة المواطنين بطريقة أفضل.

أي دولة من الدول المتقدمة لن تساوي بين مواطنيها ومواطني الدول المتأخرة، لذلك فإن تصور مواطنية عالمية في ظل دولة عالمية هو حلم بعيد المنال.

الوصول إلى حقوق المواطنة العادلة لا يتم إلا من خلال الدولة القومية التي تساوي بين جميع أبنائها وتؤمن العدل الاجتماعي والعدل الاقتصادي والعدل الحقوقي.

إن خير الإنسانية يكون باعتماد مبدأ التعاون انطلاقا من إعمال الفكر وتحقيق مصالح الجميع حتى يعمّ الخير داخل المجتمع وبين الأمم.

التربية على المواطنة هي مطلب أساسي لتنشئة مواطنين صالحين يعملون للخير العام والمصلحة العامة كغاية ومنطلق دون أن يعني ذلك التخلي عن مصالحهم الفرعية والخاصة، ولكن تحت سقف المصلحة العامة التي بتأمينها يتأمن الخير للجميع.

دعا كل من جان جاك روسو وأوغست كومت وأنطون سعاده إلى دين مدني أي دين اجتماعي لا علاقة له بالمعتقدات الدينية ولا يتدخل بها بل يعتمد على تربية المواطنين على التفكير والاهتمام بالمصلحة العامة والأخوة القومية. نمط التربية هذا يشمل الأسرة والمدرسة والمؤسسات الاجتماعية.

يتحدّث روسو في كتاب العقد الاجتماعي عن الديانة المدنية، ويقول: “الديانة المدنية ليست كعقائد الدين، بل كمشاعر اجتماعية يتعذّر على الواحد أن يكون بغيرها مواطنا صالحا”. (روسو، العقد الاجتماعي، 1995 ط2 ترجمة، صفحة 210)

“يرى روسو أن المدارس يجب أن تضمن فهم تلاميذها لقواعد المجتمع ومبدأ المساواة والإحساس بالإخاء. لكنه آمن أن المدارس نفسها لها فعالية محدودة. التطبيق الأفضل للتربية المدنية على مدى الحياة يتمّ عن طريق دين للدولة مصمّم بالتحديد للأغراض المدنية. والدين المدنيّ ليس من أجل إذاعة أو دعم معتقد لاهوتي، بل من أجل تعليم عقيدة تختص بالأخلاق والواجبات. (هيتر، 2007، صفحة 109)

وتحدّث مؤسس علم الاجتماع أوغست كومت عن قيام ديانة مدنية لا علاقة لها بالعقائد الماورائية. (COMTE, 1852, p. 10)

يقول سعاده: “إنّ من أهم مسائل النهوض القومي بعد تأسيس فكرة الأمة وبعد تعيين المقاصد الكبرى، هي مسألة الأخلاق. هي مسألة العقلية الأخلاقية. هي مسألة الروحية الحقة التي يمكن أن تفعل في الجماعة، في المجتمع. كل نظام يحتاج إلى الأخلاق. بل إنّ الأخلاق هي في صميم كل نظام يمكن أن يكتب له أن يبقى (سعاده، الأعمال الكاملة 8، 2001، الصفحات 134-135)

ويدعو إلى دين اجتماعي مدني لا علاقة له بالعقائد الدينية الماورائية، حيث لكل فرد حرية الإيمان بما يشاء. يقول:

“إذا عدت في الأخير إلى النظرة الروحية في الأمور، إلى تعبير قلته في خطاب في أميون الكورة 1937 “إنّ العالم قد شهد في هذه البلاد أدياناً تهبط إلى الأرض من السماء أما اليوم فيرى ديناً جديداً من الأرض رافعاً النفوس بزوبعة حمراء إلى السماء، نحن في هذا المعنى لنا نظرة دينية يجب أن نفهمها. (سعاده، الأعمال الكاملة 8، 2001، صفحة 101)

وجعل في صلب قسم العقيدة ـ قسم العضوية ـ نص أن يتخذ القومي الاجتماعي المبادئ القومية الاجتماعية “إيماناً له لعائلته وشعاراً لبيته” فجعل كل أب قومي اجتماعي وكل أم قومية اجتماعية مربياً، مرشداً، مثقفاً الأولاد في الدرجة الأولى في التعاليم القومية الاجتماعية. على أنّ الأب والأم قد لا يكونان، بالنظر إلى مستوى المعارف والثقافة الحاضر في شعبنا، عارفين بالأصول والقواعد الهامة في تربية الأحداث وتوجيههم، فلا تكون لتربيتهم النتائج المطلوبة. في هذه الحالة تبرز لنا بوضوح أهمية المدرس والمربي القومي الاجتماعي المنصرف إلى التدريس والتربية والإرشاد. فإذا كان تعليم العقيدة السورية القومية الاجتماعية وغاية الحركة السورية القومية الاجتماعية هو أول عمل أساسي من أعمال هذه الحركة العظيمة، كان المدرس القومي الاجتماعي أول جنديّ في معركة العقيدة القومية الاجتماعية. (سعاده، الأعمال الكاملة 8، 2001، صفحة 231)

وفي خطاب الزعيم في البقاع الأوسط، يتحدث عن: “زوبعة هي رمز دين جديد هو دين الإخاء القومي الصحيح والنهوض بهذه الأمة إلى سماء المجد”. (سعاده، الأعمال الكاملة 8، 2001، صفحة 203)

هل حقوق المواطن هي يوتوبيا مستحيلة؟ أم هي يوتوبيا قابلة للتحقيق؟

يستخدم البعض مصطلح فكر مثاليّ أو يوتوبيّ ليشير إلى استحالته أو عدم قابليّته للتطبيق. علماً أن ما هو قائم الآن في النظم السياسية والاجتماعية، كان ينظر إليه سابقا بأنه غير قابل للتطبيق.

ينظر المدافعون عن النظام القائم إلى اعتبار أية فكرة معارضة لهذا النظام على أنها فكرة مثالية يوتوبية ومستحيلة.

المدافعون عن النظام الطائفي يعتبرون أن إقامة نظام غير طائفي هي فكرة يوتوبية مستحيلة وكذلك ينظر أصحاب نظام الدولة الدينية أو القبلية أو العشائرية وغيرها من النظم التي لا تعترف بالمساواة بين جميع المواطنين، وبالتالي لا تعترف بالمواطنة والحقوق الكاملة للمواطنين، بل تجعلها مقتصرة على البعض دون غيرهم.

استخدم توماس مور مصطلح يوتوبيا التي تشير إلى المجتمع الفاضل المثالي والدولة ذات القوانين المثلى والتمسك بالعدالة باعتبارها الهدف الأساسي في أي دولة فاضلة. (سكنر، 2012 ترجمة، الصفحات 454-455)

التفكير اليوتوبيّ معارض للواقع القائم ويسعى لتغييره:

يرى كارل مانهايم في اليوتوبيا حالة ذهنية تتعارض مع الأمر الواقع. إنها متسامية على الأمر الواقع وتميل حين تتحوّل إلى سلوك إلى تحطيم نظام الأشياء السائد تحطيماً جزئياً أو كلياً. وليس كل تعارض مع الواقع القائم هو يوتوبيا، فهناك تعارض يظل فعالاً في النظام القائم ويعمل على مساندته وصيانته. (مانهايم، 1980 ترجمة، صفحة 247)

السلوك المستند الى التفكير اليوتوبيّ محكوم بتجاوز البنية الاجتماعية الموجودة.

إن مجال ما هو قابل للعقلنة وما هو قابل للسيطرة العقلانية ينمو دائماً بالمقدار نفسه الذي يصغر به مجال الأمور اللاعقلانية ويضمر. (مانهايم، 1980 ترجمة، صفحة 242)

العلاقة بين اليوتوبيا والنظام الموجود هي علاقة جدلية ديالكتيكية، والمقصود بهذا أن كل عصر ينجب في فئات اجتماعية مختلفة المواقع تلك الأفكار والقيم التي تحتوي بشكل مكثف على الميول غير المتحققة والرغبات غير المشبعة التي تمثل احتياجات ذلك العصر. وتصبح هذه العناصر الفكرية حينذاك المادة المتفجرة لتحطيم حدود النظام الموجود، وهكذا ينجب النظام الموجود يوتوبيات، وهذه بدورها تحطم حدود النظام القائم وتجعله حرا في التطور باتجاه نظام الوجود التالي. (مانهايم، 1980 ترجمة، الصفحات 252-253)

في الواقع الاجتماعي القائم هناك دائماً مدافعون عن النظام ومستفيدون منه بمقادير متفاوتة وطرق مختلفة وخاضعون لهيمنة ثقافية وايدولوجية تساعد في تثبيت النظام القائم. وهناك فئات واعية لمأزق النظام وانسداد أفقه وحاملة لنظرة جديدة بفكر جديد وتعمل ثقافياً بالدرجة الأولى على ضرورة تغيير النظام المأزوم بنظام أفضل للجميع. هكذا نظر سعاده إلى التغيير المستمر في الارتقاء نحو الأفضل. يقول في الصراع الفكري في الأدب السوري سنة 1942:

“هذه منزلة لا يـمكن بلوغها إلا بالاتصال بنظرة جديدة إلى الحياة والكون والفن مشتملة على حقيقة أساسية صالـحة لإنشاء عالم جديد من الفكر والشعور، إذا لم يكن هو العالم الأخير، الأسمى على الإطلاق، عند الـمشككين، فهو عالم فوق العوالم الماضية ودرجة لا بد منها لاطراد ارتقاء الإنسانية النفسي، ولذلك هو عالم خالد، لأن ما سيأتي بعده في الآباد البعيدة سيصدر عنه ويثبت نفسه عليه، أو، على الأقل، ستكون النفوس التي ارتقت إلى هذا العالم الجديد مستعدة لاقتبال عالم أجد، إذا كشفت مخبآت الأبد أنه سيكون مـمكناً إحداث ذلك العالم، الذي لا يـمكننا، الآن وإلى أمد بعيد، تصور موجباته وحقائقه وقضاياه، ولكننا نتصور، بـموجب مبدأ الاستمرار والاطراد الفلسفي، الذي أضعه نصب عيني في فهمي الوجود الإنساني، أنه لا بد من أن يكون ذا اتصال وثيق بعالم نظرتنا الجديدة وحقائقه وقضاياه، كما أننا نرى، بـموجب هذه النظرة، أنّ عالـمها ليس شيئاً حادثاً من غير أصل، بل شيء غير مـمكن بدون أصل جوهري تتصل حقائقه بحقائقه، فتكون الـحقائق الـجديدة صادرة عن الـحقائق الأصلية القديـمة بفهم جديد للحياة وقضاياها والكون وإمكانياته والفن ومراميه” (سعاده، الأعمال الكاملة 6، 2001، صفحة 362)

 

المراجع:

 

 

A COMTE. (1852). Catéchisme positiviste. Paris: édition électronique a été réalisée par Jean-Marie Tremblay,.

ابن خلدون. (1981 الطبعة الرابعة). المقدمة. بيروت: دار العلم.

ألان تورين. (2000 ترجمة). ما الديمقراطية الآن؟. دمشق: وزارة الثقافة.

الطيب بوتبقالت. (السبت 11 ماي, 2019). الرواقية وتأثيراتها على القانون الروماني. تم الاسترداد من [email protected]

أنطون سعاده. (2001). الأعمال الكاملة 1. بيروت: مؤسسة سعاده للثقافة.

أنطون سعاده. (2001). الأعمال الكاملة 10. بيروت: مؤسسة سعاده للثقافة.

أنطون سعاده. (2001). الأعمال الكاملة 11. بيروت: مؤسسة سعاده للثقافة.

أنطون سعاده. (2001). الأعمال الكاملة 12. بيروت: مؤسسة سعاده للثقافة.

أنطون سعاده. (2001). الأعمال الكاملة 2. بيروت: مؤسسة سعاده للثقافة.

أنطون سعاده. (2001). الأعمال الكاملة 3. بيروت: مؤسسة سعاده للثقافة.

أنطون سعاده. (2001). الأعمال الكاملة 4. بيروت: مؤسسة سعاده للثقافة.

أنطون سعاده. (2001). الأعمال الكاملة 5. بيروت: مؤسسة سعاده للثقافة.

أنطون سعاده. (2001). الأعمال الكاملة 6. بيروت: مؤسسة سعاده للثقافة.

أنطون سعاده. (2001). الأعمال الكاملة 7. بيروت: مؤسسة سعاده للثقافة.

أنطون سعاده. (2001). الأعمال الكاملة 8. بيروت: مؤسسة سعاده للثقافة.

أنطون سعاده. (2001). الأعمال الكاملة 9. بيروت: مؤسسة سعاده للثقافة.

بارنتي. (2005). ديمقراطية للقلة – ترجمة. القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة.

برا سنان. (2017). إشكالية المواطنة/ الرعية في التراث السياسي الإسلامي برلين – ألمانيا. برلين ألمانيا: المركز الديمقراطي العربي للنشر.

بويد شيفر. (1966). القومية. بيروت: دار مكتبة الحياة.

جان جاك روسو. (1995 ط2 ترجمة). العقد الاجتماعي. بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية.

جورج قرم. (1979). تعدد الأديان وأنظمة الحكم في العالم. بيروت: دار النهار.

جون إهرنبرغ. (2008). المجتمع المدني. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية.

ديريك هيتر. (2007). تاريخ موجز للمواطنة. بيروت: دار الساقي.

ريتشارد مينش. (2010). الأمة والمواطنة في عصر العولمة. دمشق: منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب.

صموئيل كرايمر. (1956). من ألواح سومر. بغداد – القاهرة: مؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر.

كارل مانهايم. (1980 ترجمة). الإيديولوجيا واليوتوبيا. الكويت: شركة المكتبات الكويتية.

كوينتن سكنر. (2012 ترجمة). أسس الفكر السياسي الحديث 1 عصر النهضة. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية.

لاسكي هارولد. (الطبعة الثانية ترجمة 2012). الدولة نظرياً وعملياً. القاهرة – لندن 1937: الهيئة العامة لقصور الثقافة – وزارة الثقافة.

لين هانت. (2013). نشأة حقوق الإنسان. القاهرة: مؤسسة هنداوي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى