دراسات/مقالات

أنطون سعاده.. مشى في طريق الحق عاملاً لمجد الأمة

د. ادمون ملحم

أنطون سعاده هو واحد من أولئك الرجال الأبطال الذين تنجبهم العناية الإلهية من حين إلى آخر وتضعهم على مسرح الحياة الكبير. رجلاً عظيماً ظهر في هذا الوجود كهبة كبيرة جادت بها السماء على هذا الوطن الخصيب زرعاً والبديع جمالاً… هبة تموضعت كوكباً إنسانياً يرسل وميضاً إلى قلوب الناس ويبعث شعاعاً ولألاء في نفوسهم وينقلهم من التفكير بصغائر الأمور ومحاقرها إلى التفكير في الغايات العامة الكبيرة ومطالب الحياة السامية النبيلة ويزوّدهم بقوة الإرادة والإيمان للسير على طريق النهوض والمجد.

والحديث عن هذا الرجل – البطل يعني الحديث عن عقل جبار عظيم اختصرَ تاريخ أمة حافل بالبطولات واندَمَجت فيه عقولها مجتمعة فرأت هذه الأمة نفسها في عقله وروحه وأخلاقه.

إنّ ظهور هذا البطل القومي، “هذا اللغز النفسي الغريب بمتناقضاته”، يدلُّ على سلامة عضوية الأمة وقوة صلبها وتكوينها لأن الأمم الواهنة السائرة إلى الإضمحلال يندر فيها ظهور العظماء، والقوة الكامنة في عقل سعاده وشخصيته دليل قوة الأمة وعنوان حيويتها وجمال نفسيتها وهذا مما يملأ قلوبنا بالفرح ويغمر نفوسنا بنور الأمل الوضاء.

وفي وجود هذا الرجل العظيم بعقله الكبير وروحه الواسعة وعطاءاته الخالدة ورغائبه العالية، نحسُّ أننا جميعا عظماء وعقلاء لأنه ينبّه منا خامد عقولنا ويثير في قلوبنا هاجع حميتنا ويوقظ فينا قوة الوجدان. فهو قد شقَّ الطريق لحياة الأمة ونبّه إلى حقيقتها ومقصدها الأسمى وعيّنَ مصلحتها وبعثَ نهضتها الشاملة ووقف نفسه لها وقدم دمه في سبيل حريتها وانتصار نهضتها في وقفة عز لا مثيل لها في التاريخ.

وفي مسيرة هذا الرجل التي ختمها بقيمة الفداء نرى البطولة تغدو وتروح بين ظهرانينا، نراها في كلماته الواضحة وفي كلّ نبرة من نبرات صوته، في دروسه وشروحاته وأقواله البليغة، في جرأته وإرادته وفي كلّ مواقفه: في المدرسة، في السجن، في المحكمة، وفي صبيحة الثامن من تموز، على رمال بيروت، وهو يتلقى رصاصات الغدر مجسِّداً أسطورة الفداء.

نرى البطولة ماثلة في الأمة بالمُعبّر الأوفى والأصفى عن إرادتها العامة، عن أمانيها ومثلها وتطلعاتها. نراها في شخصية هذا الفيلسوف، باعث النهضة القومية، معلّم الأمة ومؤسس حركة نهوضها، قائدها الجريء والناطق الأصلي بإسمها: الزعيم الخالد خلود الحياة.

نرى البطولة متجلية في سلوك هذا الرجل – القدوة الذي أعرب عما يخالج نفسيتنا من آمال وميول ومطامح نبيلة والذي امتلأت نفسه العظيمة نوراً ومعرفة وحكمة وعزيمة وطفحت روحه الكبيرة حباً وإيماناً وإخلاصاً ومقاصد نبيلة.

ونراها في مواقف هذا الرجل الذي لم تزعزعه الدسائس والإشاعات الكاذبة والأضاليل والمكائد والأصوات الخبيثة ولا سلطات الإرهاب والظلم والطغيان وتهديدها ولم يزحزحه نفيٌ ولا سجنٌ ولا تنين الرذائل والقبائح ولا مشعوذي الصحافة المنافقة، المتعيّشة، ولا طائفة الخنوع والرجعية والعار، المنهزمين، المتعيشين، المنافقين، والناقمين، والمارقين والساقطين في مستنقعات الذل والخيانة والعبودية والعار. استخّفَ بكل هذه الأهوال وبخبائث أولئك الغادرين وسفالتهم واستلذَ آلام تلك الفظائع في سبيل الواجب القومي المقدس ورحّب بالموت مجسِّداً قوله “إنّ الحياة كلها وقفة عز فقط”[1] ومؤكداً أننا “جماعة لا يبيعون الشرف بالسلامة ولا العز بتجنب الأخطار.”[2]

ونرى من الواجب علينا ان ننبّه الغافلين إلى هذه البطولة الخالدة ومزاياها، إلى وجوب احترامها وتقديرها وإجلالها والاقتداء بها. فكلّ خصائص البطولة من الرجولة الحقّة والصراحة التامة النقيّة ونصوع الحجة والبرهان والإخلاص العميق والإيمان الكبير الراسخ والصدق القومي واليقين والوضوح والثقة بالنفس ومضاء العزيمة والمثابرة والثبات والجرأة والإقدام.. كل هذه الصفات متوفرة في شخصية هذا الرجل الذي أرسلته الأقدار إلى هذه الأرض ليكون منقذاً ومعلماً وهادياً لشعبه “ومخططاً وبانياً للمجتمع الجديد..” [3]

وإذا أردنا الخلاص من ويلاتنا وأزماتنا فخليق بنا ان نسير على نهج سعاده: نهج البطولة المؤمنة، وأن نهتدي بهديه ونقتدي بأخلاقه، بمحبته، بصدقه، بصراحته، بإرادته القوية، بصبره وتحمله المشقات والآلام، بهمته العالية وحركته الدائمة، بقيادته الجريئة للنهضة القومية وبمواقفه البطولية التي شكّلت دروساً خالدة للأجيال.

حريّ بنا ان نقتدي بمسيرة هذا الرجل الذي جاهد وكافح في سبيل شعبه متخلياً عن العظمة الشخصية والجاه الخاص ومتحمّلاً آلام المرض وعذاب السجون مراراً عديدة حباً بأمته.

حري بنا أن نقتدي ببطولة هذا الرجل الذي كرّسَ حياته لخدمة شعبه وتحرير بلاده مضحياً بوقته وراحته وهناء عائلته ومتعرضاً للنفي والمحاكمة الغيابية وللدسائس والوشايات والتهديد بالقتل مراراً، ولكن هذا الرجل، الذي كان الحق مطلبه ومجد أمته غايته، لم ييأس ‏يوماً ولم يتراجع عن مهمته الرسولية.. كان دائماً شديد الثقة بنفسه وكان إيمانه بشعبه كبيراً فواجه التحديات ‏بإرادة صلبة وعمل متواصل وعطاء سخي فكراً وأدباً وإبداعاً ومناقب جديدة.

حري بنا أن نقتدي بهذا الرجل صاحب النفس الأبية الذي رفض المجد الزائف ومشى في طريق الحق عاملاً لمجد الأمة فبعث فيها نهضة قومية هي من أروع نهضات العالم كله وأوجدّ حركة الشعب القومية التي أطلقت “قوة روحية عظيمة لا حد لممكناتها”[4] فجذبت “ألوف الشبان والشابات إلى الإيمان القومي المحرر النفوس من عبودية الاستسلام للحال الراهنة”[5] و”صنعت “تاريخاً جديداً حافلاً بحوادث الإخلاص والبطولة والتضحية.”[6]

“ليكن لنا قدوة في الزعيم الذي مشى في الحق، ودعا إلى الحق”[7]، وشق الطريق لتحيا الأمة ولتسير نحو مثالها الأعلى!

ليكن لنا قدوة في الزعيم الذي سالت دمائه على رمال بيروت بعد ان قال: “كلنا نموت، ولكنّ قليلين منّا يظفرون بشرف الموت من أجل عقيدة.”[8]

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ ملحق رقم 2 خطاب الزعيم في بشامون 3/10/1948.

2 ـ المرجع ذاته.

3 ـ رسالة من الزعيم للقوميين 10/1/1947.

4 ـ شق الطريق لتحيا سورية، نشرة عمدة الإذاعة، بيروت، المجلد 3، العدد 9، 31/10/1947.

5 ـ المرجع ذاته.

6 ـ الوطنية والأريحية في المغترب، الزوبعة، بيونس آيرس، العدد 62، 1/7/1943.

7 ـ المرجع ذاته.

8 ـ سعيد تقي الدين، حدثني الكاهن الذي عرّفه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى