في أساطيرنا الميتولوجية المعبّرة عن سمو تفكيرنا ونفسيتنا الطامحة إلى الخلق والتفوّق والإبداع كأسطورة البعل وقدموس وإنانا، ربة الحب والجمال، وغيرها من الأساطير الرائعة التي تحوّلَ أبطالها إلى آلهة ترمز إلى قيم الصراع والاستشهاد لأنهم تصارعوا مع قوى الشرّ والظلم والغضب وضحّوا بحياتهم من أجل خير الإنسان واستمرار الحياة… في هذه الأساطير التاريخية الخالدة نقع على أسطورة إله الحب والشباب، أدونيس أو تموز الذي عشق عشتروت رمز الأرض وافتداها بحياته عندما تهدّدها خطر الخنزير البري، رمز الرعب والموت والعدوان الاجتياحي، إذ صارع أدونيس الخنزير واستشهد في معركة بطولية من أجل ان تنتصر الحياة وقيَمها السامية.
وبعد أن دار دورته حول الشمس آلاف المرات، عاد شهر تموز الذي أطلق عليه السوريون هذا الإسم إحياءً لذكرى إلههم الذي استشهد من أجلهم.. عاد ليذكّرنا بأسطورته الجميلة، بإله الحياة والخصب الذي غدرَ به الخنزير البري… عاد ليجسّدَ أسطورة الفداء في أبهى مظاهرها وأكمل معانيها في ليلة ظلماء.. في مواجهة بطولية بين الحق والباطل، بين قوّتين: واحدة تعبّر عن إرادة الأمة الناهضة إلى حياتها الجديدة – حياة الحرية والسيادة والشرف والكرامة والعز والعنفوان والأخرى ترمز إلى الظلمة والعبودية والطائفية والعمالة والذلّ والعار والاستسلام.
في تلك المواجهة في صبيحة الثامن من تموز، تقدّمَ أنطون سعاده صاحب القضية ومعلم الأمة وفيلسوفها.. تقدّمَ القائد الشجاع بخطى ثابتة وابتسامة ظافرة تعكسُ إشفاقة على الذين أرادوا إذلاله وتحملُ كلّ معاني العزّ التي تنهض بها نهضته… تقدّمَ هذا الرجل – القدوة إلى خشبة الإعدام ليواجه الموت بوقفة بطولية عزّ نظيرها، وقفة اختصرت كلّ البطولات.
وفي الساعة الثالثة والثلث من فجر ذلك الثامن من تموز، تجسّدَ فعل التضحية الذي لا يضاهيه فعل آخر… تجسّدت عقيدة الفداء الفردي افتداء لخير المجتمع ولحياة الأمة، وتجسّدت البطولة النادرة بالقول للجلادين: “دعوا عيني مفتوحتين لأرى الرصاص يخترق صدري”… رحبَ سعاده بالموتِ سائلاً جلاديه أن يُبقُوهُ طليقَ النظرِ ليكونَ وطَنهُ آخر ما يراه قبل استشهاده… وعندما اخترق الرصاص صدره وهو يردِّد كلمة شكراً لجلاديه، تفجّرت الدماء الزكية انتصاراً للحقّ وصيانة للقضية وافتدت الأمة ذاتها بشهادة رجل المبادئ الجامعة التي شعّت على الأمة نوراً، بعظيم عظمائها ومعلم أجيالها الهادي: شهيد الأمة الزعيم الخالد.
وعن تلك الليلة الظلماء التي سطعت فيها الشهادةُ الأزكى والأرقى، لا بدّ من تسجيل النقاط التالية:
أولاً، كم هم أقزامٌ أولئك المتآمرونَ الذين اغتالوا سعاده بمحاكمة بربرية ليتربّعوا على عروشِ الذلّ والخيانةِ… أولئك الحكّامُ المأجورونَ المشوَّهونَ في عقولهم وضمائرهم ظنوا أنهم سيتخلصون من سعاده بقتل جسده ولكن قد خاب فألهم لأنّ سعاده القائل “قد تسقط أجسادنا أما نفوسنا فقد فرضت حقيقتها على هذا الوجود ولا يمكن ان تزول”، بقي حياً بحزبه وتعاليمه وبالحقائق التي كشفها لنا وللأمة وللعالم والتي أكّدت وما زالت تؤكِّدُ عليها أزكى الشهاداتِ: دماء الشهداءِ الأبرار… أولئك الحكّامُ الخونةُ لاقوا حسابهم وسقطوا في مزبلة التاريخ، أما سعاده فأمسى بعقيدته منارةٌ لا تنطفئ وروحاً متأججةٌ تسري في عروق المؤمنين به وحقيقةٌ راسخةٌ في وجدان السوريين وقلوبهم، وأغنيةٌ قوميةٌ تردِّدها الأجيالُ من بعده وتعلنُ ولاءها له زعيماً خالداً خلود الحياةِ.
ثانياً، نؤكد أنّ دماء سعاده الطاهرة التي سالت على رمال بيروت، تنبت في كلّ يوم شقائق نعمان لتحوّل وطننا إلى ربيعِ الأمل والزهور، ربيعِ الخصب والخيرات ومواسم الحصاد، وربيعِ الشمس الدافئة الواعدة بكلّ الخير والحب ودفق العطاء…
دماء سعاده أينعت أشبالاً وزهرات ومقاومين وكلماته أمست نوراً ينير ظلام الأمة ويملأ العالم جمالاً وتألقاً وضياء.
تعاليمه أمست وجداناً حياً منتشراً في الأمة وساكناً في نفوس مناضليها وشرفائها… وأمست روحاً ثائرة تواجه الطغاة أحفاد الخنزير البري وتتصدّى للتنين الصهيوني الذي يتربّص للغدر بنا والفتك بكلّ أدونيس وتموز… هذه الروح الثائرة تجلّت بشهداء الأمة وأبطالها المقاومين، بسناء ووجدي وعلي، بنورما وفدوى وابتسام، وبيحيى سكاف وفادي الشيخ وخالد علوان، وبكلّ شهداء المقاومة التي نفتخر بانتصاراتها وإنجازاتها والتي أكدت ما قاله شهيد الثامن من تموز: “انّ فينا قوّة لو فعلت لغيّرت وجه التاريخ”.
ثالثاً، في شهر الفداء، نتوجه إليك يا زعيمنا الخالد ونقولُ:
ما أحوج شعبنا إليك لتنقله من ذلّ العيش والخنوع والاستكانة إلى عزّ الحياة وحسنها وجمالها…
ما أحوج شعبنا إلى مبادئك الإصلاحيةِ لتنقذه من البؤرِ الطائفيةِ والأزماتِ المعيشيةِ والحالةِ الاقتصاديةِ التي يرزح تحت ثقلها، متحمّلاً الفقر والجوع والآلام، وترتفع به إلى رحاب نهضة العزّ والانتصار، إلى الحياة الجميلة، الحرّة ونظامها القومي الاجتماعي الأمثل.
ما أحوج شعبنا إلى تعاليمك السامية ليستلهم منها العزم والقوة والإيمان وروح الصراع والبطولة والإقدام.
شعبنا اليوم بحاجة ماسّة إلى أخلاقك وجرأتك ورجولتك ليقف في وجه الفاسدين والمتآمرين والمنافقين والأنانيين وكلّ المخرّبين والمتطاولين على مصلحة الأمة والمشكّكين بقدرتها والساقطين المتنازلين عن حق الصراع من أجل إشباع شهواتهم الحقيرة وبناء “عظَمات” أنانية وهمية.
نعاهدك يا زعيمي، أيها الحاضرُ دائماً فينا وفي قلوب المؤمنين في الحياة.. أيها الحاضرُ في شعبنا المعطاء، في قبضاتِ المقاتلين وسواعدِ الثوار، في رايات النصر ترفرف في شام الياسمين، وفي أجساد كلّ الشهداء المتناثرة على أرضنا وقد نبتت شقائقَ نعمان ورياحين، نعاهدك بأننا لن نتخلى عن عقيدتنا وإيماننا بل سنستمرّ في مواجهةِ التنينِ المتعدّد الرؤوس وكلّ أعداءِ الأمةِ الطامعينَ بثرواتها وسنبقى حماةَ حقّ الأمةِ والمدافعين عن سيادتها وكرامتها… نعاهدك بأننا سنبقى في ساح الصراع لإنقاذ الأمةِ من انقساماتها وأوضاعها الفاسدة ولتحريرها من كلّ المشعوذينَ والدّجالينَ تجارِ السياسةِ والطائفيةِ والوطنيةِ المتحالفين مع الإرادات الأجنبية والمتآمرين على الشعب ومصالحه.. إن الحرب ستبقى قائمةٌ بيننا وبين هؤلاءِ إلى أن يتحققَ مطلبُنا الأعلى ويكونَ لنا الانتصارُ الذي نسيرُ إليه لتحي سورية كلها حياةَ العز والمجد والخلود.