مع إعادة طرح البعض للفدرالية كحلّ لمشكلة الواقع اللبناني، يصبح لزاماً توضيح جملة من المفاهيم المرتبطة بها.
الدولة في مفهومنا هي المظهر السياسي والثقافي والحقوقي للأمة أو قل هي مؤسسة الشعب الكبرى، هذا هو المفهوم الحقيقي للدولة في مسار تطوّرها التاريخي، وهذه الدولة ذات مفهوم يتخطى مسألة الأمن الى التصدّي لمهام الرعاية الاجتماعية، وتحقيق العدالة في توزيع الثروات القومية على المواطنين، وغيرها من الوظائف والأدوار الحاضنة للإنسان والمواطن بمستوياتها المختلفة.
فالدولة إذن هي إطار سياسي ثقافي وحقوقي يقوم على دستور وقوانين وأنظمة ترعى سير عملها وكيفية إدارتها للمجتمع.
بهذا المعنى، نحن أمام صيغ مختلفة ومتعدّدة للحكم تتراوح بين النظم والدول المركزية سياسياً وإدارياً، وبين دول تزاوج بين المركزية السياسية واللامركزية الإدارية التي تتلاءم مع ظروف واقعها السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وبين دول ونظم اعتمدت صيغ فدرالية أو كونفدرالية سياسية كاملة.
طبعاً، هناك تجارب حكم عديدة في العالم في كلّ الاتجاهات، وهذه التجارب تطبع المسارات السياسية لشعوب وأمم بكاملها.
ما يهمّنا في هذه المقالة هو التطرّق الى مسألة “الفدرالية” بالذات، نظراً للحملات التسويقية لهذه الصيغة في بلادنا في هذه الأثناء، حيث أنّ البعض ينظّر لطرح الفدرالية في بلادنا، وهذا التسويق ليس حديث العهد، فإبان الحرب اللبنانية في السبعينيات، طُرحت في الإعلام خطة كيسنجر لتقسيم لبنان والمنطقة الى كيانات دينية (طائفية، مذهبية إلخ…) وبعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان في العام 1982، طفت على السطح محاولات حقيقية في سياقات الحرب الداخلية الى تعميق الشرخ بين أبناء الشعب الواحد، وفرض التقسيم كحالات أمر واقع على وقع المذابح وعمليات الفرز الطائفي والمذهبي التي حصلت في العديد من المناطق اللبنانية.
وبعد الاجتياح الأميركي – الغربي للعراق عادت شعارات الفدرالية الى التداول كصيغ لتقسيم العراق الى كانتونات على قاعدة طائفية مذهبية، كإطار للحكم العراقي، وكلّ ذلك ترافق مع خطط أميركية معلنة وموثقة ومثبتة تدعو الى ما يسمّى “الفوضى الخلاقة”، وما رافق تلك الفترة من ضغوط على دمشق وعلى مواقع الممانعة والمقاومة في بلادنا من العراق الى فلسطين، وصولاً الى 2005 واغتيال الحريري في لبنان، ودخول المنطقة في عنق الزجاجة الأميركية من خلال الضغوط غير المسبوقة لإضعاف جبهة المقاومة للكيان الصهيوني على أرض فلسطين، وفرض تسوية سياسية شاملة تضمن لهذا الكيان التفوّق والاستمرار من خلال تفجير المجتمع والمنطقة برمّتها وتفتيتها وشرذمته على قاعدة جزئية طائفية ومذهبية وعشائرية، واليوم ثمة من يتحدث عن نظام حكم فدرالي في الشام في إطار التسوية للحرب القائمة في الشام.
إذا هل “الصيغة الفدرالية” هي طرح بريء؟ طبعاً لا.
كلّ صيغ الحكم والأنظمة السياسية هي أطر تهدف الى إدارة المجتمعات وفق مصالح وخصوصيات هذه المجتمعات وبهدف تحقيق أهدافها في التنمية والنمو والازدهار وتحقيق الرفاهية وضمان تحقيق أفضل الصيغ للحكم بما يتوافق وإرادة هذه الشعوب.
هذا في المبدأ… وبالتالي كلّ الصيغ ممكنة ومطروحة للبحث، وكلّ الخيارات ممكنة على ضوء العقل، وعلى قاعدة الربط بين الوسائل والأهداف، بين الإطار وآفاق تطوّره، بين المجتمع وقيمه وغاياته وأهدافه ومصالحه العليا.
ولكن، هل طرح “الفدرالية” في بلادنا عموماً هو طرح يعبّر عن حاجة مجتمعنا وشعبنا وعن توقه لتطوير حياته السياسية.
كلّ الوقائع المعطوفة على المعلومات، والمؤسسة على قاعدة المشاريع الأجنبية المتقاطعة مع المشروع الصهيوني الأصلي، كلّ ذلك يدلّ على عكس ذلك.
ماذا تفيدنا التجارب الفدرالية حول العالم؟
في الولايات المتحدة الأميركية تعتبر الكونفدرالية صيغة دستورية وسياسية انتقالية في سياق تطور الأمة الأميركية نحو الفدرالية والتي ستحمل اسم “الولايات المتحدة الأميركية” مع دستور 1787، فهذا الدستور وليد عصره فلقد كان يحمل طابع القرن الثامن عشر في نظريته السياسية وصيغت تفاصيله من تجربة أولئك الذين وضعوه، فالذين يلمّون بشؤون ذلك العهد يعرفون مدى انتشار أفكار لوك LOCKE وقبولها قبولاً عاماً، فمجال تدخل الحكومة وعملها حسب هذا الدستور ينبغي أن يكون محدودا، فهي قد أقيمت على أساس من التعاقد الذي دخل فيه المواطنون عن حرية واختيار، ويمكن حله تحت ظروف معينة، والحقوق الطبيعية للمواطن لها السيادة، وينبغي أن تشجع وتنمّى وألا تنتهك، فالدستور الأميركي – بهذا المعنى – عبارة عن وثيقة أثبتت أنها قابلة للتكيّف إلى حدّ مدهش.
التجربة السويسرية تؤكد أنّ “الفدرالية” هي خطوة باتجاه المزيد من الوحدة بين كانتونات سياسية متنوّعة ومتعدّدة ثقافياً وحضارياً، إذ أنّ سويسرا هي عبارة عن ثلاث مناطق رئيسية تقع على أطراف ثلاث بلدان أوروبية هي ألمانيا، ايطاليا، فرنسا، وبالتالي هذه الصيغة “الفدرالية” الفريدة من نوعها كانت الإطار الحاضن لهذه التعددية باتجاه توكيد الهوية الوطنية السويسرية وخطوة باتجاه الوحدة الكاملة تحت عنوان “الوطنية السويسرية”…
أكتفي بعرض موجز لهاتين التجربتين، لأخلص للقول إنّ ما هو مطروح في بلادنا، لا يمتّ البتة الى حاجة أمتنا وشعبنا في كلّ كياناته السياسية، بل جاء في سياق تآمري يهدف الى تحقيق صيغة “فدرالية” للحكم على قاعدة تجزيئية تشليعية، لا سبيل للوصول اليها الا بتدمير المجتمع من الداخل، وتدمير الهوية القومية التي تشكلت عبر التاريخ، ولتدمير وحدة حياة ودورة حياتية اقتصادية اجتماعية قائمة فعلاً في بلادنا في الهلال الخصيب بالرغم من التجزئة الكبرى السياسية في معاهدات سايكس بيكو وسان ريمو وغيرها…
هذه الوحدة الحياتية التي نشأت بصورة عفوية طبيعية وفي سياقات تاريخية طويلة الأمد، وفي سياقات جغرافية واسعة من بلادنا من العراق الى الشام ولبنان والأردن وكلّ الأنحاء، وعبّرت عن ذاتها في هذا التفاعل الحي بين الإنسان والإنسان، وبين الإنسان والأرض، ومن خلال التداخل في الحياة الواحدة في القرية الواحدة، وفي المدينة الواحدة، وفي الحي الواحد، كلّ هذه التعبيرات الحية تؤكد عمق وحدة مجتمعنا وعصيانه على كلّ محاولات التقسيم والتجزئة.
دون الصيغة “الفدرالية” في بلادنا أنهارٌ من دماء ومذابح وتقاتل طائفي ومذهبي بين أبناء الشعب الواحد لا تخدم إلا غاية واحدة هي غاية “الكيان اليهودي” اللقيط في تعميم نموذجه العنصري المهدّد لوجودنا ومستقبل بلادنا…
ما نتطلع له بعد هزيمة مشروع الحرب الكونية – الصهيونية على بلادنا أن تنحو الكيانات السياسية في الهلال السوري الخصيب باتجاه التكامل الاستراتيجي العسكري – الاقتصادي – السياسي كخطوة باتجاه توكيد الوحدة القومية لأمتنا.
عدا ذلك أضغاث أحلام… وكما أسقطنا مشاريع التقسيم في مراحل سابقة سنسقطها اليوم!