دراسات/مقالات

مشروعان متناقضان.. بينهما حرب وجود ونحن واثقون من انتصارنا

د. ادمون ملحم

ما نشهده في بلادنا من قتل ومجازر ودمار وتهجير في فلسطين والشام ولبنان والعراق والأردن ليس إلا مشاهد من حرب طويلة الأمد مفتوحة على أمتنا وعلى وجودنا الإنساني الحضاري. هذه الحرب فُرضت علينا منذ تأسست الحركةُ الصهيونيةُ العالميةُ بهدفِ إيجادِ وطنٍ قوميٍ لليهودِ في فلسطين مرتكزةً على فكرةِ “أرضِ الميعاد” الممتدةِ بين الفراتِ والنيلِ التي منحَها يهوه السمسارُ لشعبِه “المختار” من دونِ سائرِ الشعوبِ لتكونَ له ملكاً أبدياً كما جاء في قولِه لإبراهيم في سفر التكوين 7:17: “… أعطي لك ولنسلِك من بعدِك أرضَ غُربتِك، كلَ أرضِ كنعان، ملكاً أبدياً، وأكون إلهَهُم”.

وهذه الحرب المصيرية أفرزت مشروعينِ متناقضينِ لا يمكنُ التسويةُ بينهُما:

المشروعُ الأولُ هو المشروعُ الصهيونيُ العدواني الذي يريدُ أن يُقوّضَ مُجتمعَنا من خلالِ طمسِ هويتِنا القوميةِ وتراثِنا المناقبيِ الإنسانيِ وتزويرِ تاريخِنا الحضاريِ وأساطيرِنا الجميلِة وسرقِة ثرواتِنا وكنوزِنا وآثارِنا الخالدةِ والحطِّ من قِيمِنا الأخلاقيةِ والدينيةِ الساميةِ وتشويهِ كلِ إنتاجِنا الحضاريِ ومسيرتِنا الثقافيةِ والسياسيةِ والإبداعية.

المشروع الثاني فهو المشروعَ القوميَ الوحدوي الواضح، مشروعُ سوريةَ الطبيعيةَ الحضاريةَ العريقةَ في جذورِها التاريخيةِ والغنيةِ في معطياتِها الإنسانيةِ والثقافيةِ الماضية.

المشروع الصهيوني هو مشروع استعماريٌ سرطانيٌ مدعوم من الغرب الرأسمالي ومتسلحٌ بأعنفِ الوسائلِ الماديةِ والعسكريةِ المدمّرةِ ويرتكز على مزاعم وهميّة خرافية.

أما المشروع القوميّ فهو مشروعٌ مجتمعيٌ إنسانيٌ راقٍ يرتكزُ على مبدأِ الاشتراكِ في الحياةِ والتفاعلِ الاجتماعيِ الطبيعيِ في البيئةِ الواحدةِ وعلى ملكيةِ الأمةِ التاريخيةِ لِوَطنِها وما فيه من ثرواتٍ وخيرات..

المشروع الصهيونيّ يعتمد البطش والإرهاب ولا يمثل إلا الباطلَ العنصريَ والنفسيةَ الهمجيةَ المتحجرةَ في مُعتقداتِها ومزاعمِها التاريخيةِ الخرافيةِ والمُفعمةِ بالحقدِ واللؤمِ والظلمِ والكراهيةِ والعداءِ للشعوبِ..

أما المشروع القومي فهو مشروعٌ حضاريٌ يمثّلُ النفسيةَ الجميلةَ الخلاّقةَ والمفعمةَ بالفضائلِ والقيمِ الساميةِ ويهدف إلى تحسينَ حياتِنا القوميةِ والمساهمة في رقيِ الإنسانيةِ جمعاء. وهذا المشروع تنهضُ به قوةٌ خلاَّقةٌ مؤمنةٌ بحياةٍ جميلةٍ تشعُّ فيها قيمُ الخيرِ والحقِ والجمالِ والحريةِ والسلام..

إن نتائج الحرب المصيرية تتوقف علينا نحن وعلى قدرة هذا المشروعُ القومي الطبيعي. فلكي ينهضَ هذا المشروع وينتصرُ يستوجبُ منا جميعاً الخروجَ من حالةِ الفتنِ المذهبيةِ والشرذمةِ والانقساماتِ إلى حالةِ الوحدةِ الاجتماعيةِ والتسامحِ القوميِ، حالةِ الوضوحِ واليقينِ والثقةِ بالنفسِ والعملِ بإرادةٍ واعيةٍ وخطةٍ نظاميةٍ واضحةِ الأهداف.

لا يمكنُ لنا أن نتغلبَ على الخطةِ الصهيونيةِ النظاميةِ الدقيقةِ ونحن نتبادلُ الأحقادَ الدينيةَ ونتقاتلُ على الجنةِ السماويةِ ونتخبطُ بقضايا الفئويةِ والمذهبيةِ والعشائريةِ والخصوصياتِ.. بل نتغلبُ عليها بعقيدةٍ جلّيةٍ واضحةٍ تُحيي حقيقتَنا التاريخيةَ الحضاريةَ وتعملُ لتأسيسِ مجتمعٍ مدنيٍّ ديمقراطيٍّ راقٍ يعي هويتَه وتاريخَه وقضيتَه القوميةَ ومقاصدَه الكبرى في الحياة.

لا يمكنُ لنا أن نتغلبَ على الخطةِ الصهيونيةِ بأنظمةِ الطائفيةِ والجهلِ والتخلفِ والفسادِ، أنظمةِ الهرولة وكبتِ الحرياتِ..

ولا نتغلَّبُ عليها بالسياساتِ الضيقةِ، بسياسةِ المماحكاتِ والخصوماتِ وبنهجِ التخاذلِ والتسكعِ والمساومات… بل نتغلبُ عليها بخطةٍ نظاميةٍ أشدُ نظاماً وأدهى، خطةٍ عقلانيةٍ واضحةٍ في الرؤيا والأهدافِ ودقيقةٍ في التخطيطِ والممارسةِ والإنجاز.. خطةٍ تعملُ لبناءِ الإنسانِ الجديدِ في فكرِه وقلبِه ووجدانِه، الإنسانِ الحرِ المؤمنِ بنفسهِ وإنسانيتِه، الممتلئ بقيمِ الحياةِ الساميةِ والمتسلحِ بقوةِ العلمِ والمعرفةِ والوجدانِ القومي، الإنسانِ – المجتمعِ الذي يعملُ لخيرِ مجتمعِه ورقيِه والذي يرفُضُ العيشَ الذليلَ ويحيا لقضايا الحياةِ العالية، حياةِ العزِ والشرفِ والانتصار.

ولا نتغلبُ على الخطةِ الصهيونيةِ بثقافةِ الهزيمةِ ولغةِ الإحباطِ، بنفسيةِ الخوفِ والصمتِ والخنوعِ وبأساليبِ الفوضى والتبعيةِ والاتكاليةِ والارتجالِ بل نتغلبُ عليها بخطةٍ ساهرةٍ وراصدةٍ وُمحرِّكةٍ إمكانياتِ المجتمع… خطةٍ هجوميةٍ ومصارعةٍ عواملٍ الضعفٍ والانحطاطٍ والفناء.. خطةٍ تُفكرُ برويةٍ وتستشرفُ المخاطرَ والتحديات.. تراهنُ على إرادةِ الحياةِ فينا وعلى ما يكمُنُ في نفوسِنا من قوةٍ مناقبيةٍ ومن خلقٍ وإبداع.. توقظُ النيامَ وتخاطبُ العقلَ والوجدان.. تنفخُ في الشعبِ روحَ البطولةِ والصراعِ والمقاومةِ وتُنَمِّي فيه روحَ الوعي والمعرفةِ العلميةِ والثقافةِ القوميةِ الصحيحةِ التي تزيلُ الغشاواتِ وتَقْضِي على المبادئ الفاسدةِ والثقافاتِ الرجعيةِ المسؤولةِ عن الكوارثِ القوميةِ التي حلَّتْ بنا.

في مواجهةِ المشروعِ الصهيونيِ لا خيارَ لنا إلا خيارَ المقاومةِ والصمودِ، خيارَ الصراعِ والبطولةِ المؤمنةِ دفاعاً عن الكرامةِ القوميةِ والوجودِ القوميِ والحقِ القومي. بفضلِ هذا الخيارِ فقط يمكن ان ننهي زمنَ الهزائمِ المتعاقبةِ على أمتِنا ونبدأ زمناً جديداً هو زمنُ الانتصاراتِ المشهودة، زمنُ المقاومينَ المؤمنينَ والشهداءِ الأبرارِ الذين بهم وحدهم نهزم المشروعَ الصهيونيَ – الأميركاني وسنهزمه حتماً لأن فينا قوة، كما يقول سعاده العظيم، لو فعلت لغيّرت وجه التاريخ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى