دراسات/مقالات

عذراً سعاده… عذرا قلمي

بقلم: وجدي المصري / كاتب قومي

إحدى وسبعون سنة على اغتيالك يا زعيم الأمة ولم تستطع نهضتك العظيمة أن تنقذ أمتك من التفسّخ المريع الذي تركها أشلاء تتناتشها الذئاب. بعدك أيّها الزعيم تكاثر الزعماء لكنّهم حرفوا هذه الكلمة عن معناها الحقيقي الذي يعني لغوياً: الكفيل، أي الذي يكفل أمّته ويرعاها ويساعدها إمّا على النهوض والارتقاء وإمّا على الثبات في منزلة الرقي الرفيعة، أي حسب ظروف الأمة، والزعيم أيضاً هو رئيس القوم وسيّدهم. والزعامة أيضاً تحمل معنى: الدّرع والرياسة والشرف، وكلّ هذه القيم تجسّدت فيك وأنت القائل: “إن كنتم ضعفاء وقيتكم بجسدي، وإن كنتم جبناء أقصيتكم عنّي، وإذا كنتم أقوياء سرت بكم إلى النصر”. أنت لم تطلب الزعامة لتحقيق مصلحة خاصة كما يفعل “زعماء” هذه الأيام الذين بدلاً من أن يكونوا الدرع التي تقي الأمة من الويلات كانوا بأنفسهم الويل الثقيل الذي أنزل بالأمة الخراب، وبدلاً من أن يكونوا رؤساء قوم حقيقيين إذا بهم رؤساء مافيات ينهبون الشعب ويذلّونه ويهشّون عليه بالعصي كأنهم الرعيان وهو القطيع، وبدلاً من أن يتحلوا بالأخلاق والمناقب التي تُبرز قيمة الشرف عند الزعيم القائد الشريف، أبوا إلاّ أن يهينوا الناس ويدفعوها إلى التخلّي عن أقدس ما يتّصف به الإنسان أي الشرف.

إنّ النظام الطائفي الذي وصّفته بدقة بأنّه علة تأخّرنا وانقسامنا وتشرذمنا لم يكتف فقط باغتيالك بل هو أنبت “الزعماء” كالفطريات وما من أحد جسّد مفهوم الزعامة كما فعلت، وهذا ما دفع الشهيد كمال جنبلاط إلى أن يقول في استجوابه للحكومة التي أخذت القرار بإعدامك أنّك: “رجل عُرف عنه أنّه رجل عقيدة ومؤسس مدرسة فكرية كبيرة وباعث نهضة في أنحاء الشرق قد يندر لها مثيل”.

اغتالوك لأنّهم رأوا فيك الوطني الأمثل الذي اعتبر أنّ مصلحة أمّته يجب أن تكون فوق كلّ مصلحة، وهم كانوا العملاء السماسرة الذين باعوا أراضيهم في فلسطين إلى العدو، وهم الذين تواصلوا معه واتهموك ظلماً بذلك، وهم الذين غذّوا الطائفية في نفوس المواطنين في الوقت الذي سعيت فيه إلى إلغائها والارتقاء بمواطني أمّتك إلى الحياة الحرّة الكريمة العزيزة فحاولت أن تنتشلهم من العيش الذليل إلى الحياة الكريمة فقلت لهم بأنّ: “الحياة لا تكون إلاّ في العزّ، أمّا العيش فلا يفرّق بين العزّ والذل”. وها هم حتى الساعة لا يفرّقون بين الحياة وبين العيش لأنّهم استسهلوا العيش الذليل ولم يفقهوا معنى العزّ.

كنت الوحيد الذي وقف بوجه سايكس بيكو التي جزّأت أمتنا إلى كيانات وغذّت العنصرية العائلية والعشائرية والقبلية والطائفية والمذهبية. وهم كانوا وما زالوا يعملون على ترسيخ هذه المفاسد في نفوس المواطنين لكي يستغلوهم باسم مصلحة العائلة والعشيرة والطائفة. كنت لم تزل فتياً عندما رفضت رفع العلم التركي فوق بناء مدرستك، وها نحن بالأمس القريب رأينا المتظاهرين في بيروت يحملون الأعلام التركية ويدافعون عن السلطان العثماني الجديد. تناسوا أربعة قرون من الاحتلال والقهر والظلم ونشر الفساد، وتنادوا لنصرة المحتلّ فقط لأنّه يشبههم بالانتماء المذهبي ونكاية بشريكهم في الوطن المختلف مذهبياً عنهم.

كنت الوحدوي الأول بامتياز، وهم طأطأوا الرؤوس ورضخوا لمفاعيل الاحتلال وتداعياته. استشرفت أهمية وحدة الأمة من حيث هي واقع اجتماعي، اقتصادي، تاريخي، جغرافي وحضاري، وهم استزلموا للاستعمار وقبلوا بما خطّط وقسّم، فنفخوا على جمر الطائفية الذي زرع، فأكلت نيرانها الأخضر واليابسة وأبقت على مصالحهم. مبدؤك الإصلاحي الأول هو فصل الدين عن الدولة فكرّسوا المصلحة المذهبية على المصلحة الوطنية. سعيت إلى الدولة المدنية العصرية من خلال المبدأ الإصلاحي الثاني فطالبت بضرورة منع رجال الدين من التدخّل في شؤون السياسة والقضاء، وها هم، وقد شارف الربع الأول من القرن الحادي والعشرين على الانتهاء، يركّزون في كلّ خطبهم على الوضع السياسي ولا ينظرون إلى شؤون رعاياهم الدينية الروحية. أخلاق أجيالنا تنهار، القيم العائلية تداس، المثل الاجتماعية أصبحت ترفاً فكرياً، وهم لا يأبهون إلاّ بزخرفة أماكن العبادة، وبطوابير المرافقين والسيارات الفارهة، فهل الطريق إلى الله لا يمكن سلوكها إلاّ بهذه المظاهر الزائفة الزائلة؟

أردت بناء الإنسان الجديد على أن يكون انتماؤه لدولته التي تشكّل المظهر السياسي للأمّة، وهم أرادوه إنساناً مسلوب الإرادة يمشي مع القطيع، ليس عليه أن يُعمل عقله بما هو صالحه، لأنّ “زعيمه” يفكّر عنه، وهو العالم العارف كيف يكون استغلال الزعماء للأغبياء. لقد كّرسوا الولاء للطائفة، للمذهب، للعائلة وللقطيع، ولم يبق من مجال ليكون للوطن مكان إلاّ بالشعارات الطنّانة التي تتبخّر في الهواء بعد إطلاقها بثوانٍ. لقد أعادوا الإنسان إلى القمقم بعدما حاولت جاهداً لإخراجه كي يتنسّم هواء الحريّة النقي، ولم يفهموا قولك: “إن لم تكونوا أنتم أحراراً من أمّة حرّة، فحريّات الأمم عار عليكم”. هي مقولة نهضوية لو فهموها لما غرقوا وأغرقوا كيانات الأمة بالذلّ والهوان، ولكن من أين للعبد الذليل أن يفهم معنى الحرية الحقيقي وبالتالي كيف يُمكنه أن يمثّل ويعبّر عن تطلعات أمته للحرية وهو قد اعتاد حياة الحُفر.

لم تستعن بنظريات اقتصادية معلّبة وضعها اقتصاديون ينتمون إلى مدرستين: رأسمالية واشتراكية، بل وضعت نظريتك الخاصة لأنّك آمنت بأنّ في النفس السورية كلّ الحق والخير والجمال، وبأن ما صحّ لدى الأمم الأخرى ليس من الضروري أن يصحّ في أمّتك، وبالتالي درست واقع مجتمعك فرأيته لم يزل يرزح تحت نير الإقطاعية، ودرست الرأسمالية فوجدتها جشعة تنهب الشعب وتحصر الثروة بيد قلة لا ترحم، ودرست الإشتراكية فوجدتها تعمل على ترسيخ الطبقية وزيادة الفوارق بين أبناء المجتمع الواحد وتحكّم طبقة العمّال بكلّ طبقات الشعب الأخرى، وانطلاقاً من نظرتك القومية الاجتماعية التي ركّزت فيها على وحدة الحياة لأبناء المجتمع الواحد وضعت المبدأ الإصلاحي الرابع الذي يقضي بإلغاء الإقطاع وتنظيم الاقتصاد القومي على أساس الإنتاج، أي يجب على الدولة القومية الاجتماعية أن تكون لها خطة اقتصادية واضحة تعتمد على الإنتاج، وهذا يعني أنّه من واجبها خلق فرص العمل لكي يكون كلّ مواطن منتجاً بطريقة أو بأخرى، وعلى هذه الدولة أن تكون عادلة بحيث يتمّ توزيع الثروة الناتجة عن مجموع جهود مواطنيها كلّ حسب إنتاجه فيتمّ بذلك إنصاف العمل من جهة وصيانة مصلحة الأمة والدولة من جهة ثانية. فماذا فعل “الزعماء” بعد غيابك؟ أخجل من ذكر “إنجازاتهم” التي وبدلاً من تشجيع الاستثمار لزيادة الإنتاج، فرضوا خوة على كلّ المستثمرين بحيث لا يمكن أن يمرّ أيّ مشروع استثماري إن لم يدخل “الزعيم” شريكاً مضارباً، فهرب رأس المال وتربّعوا هم على رأس الشركات العاملة يمعنون من خلالها بسرقة المواطنين من خلال الحصرية والاحتكار فأوصلوا الكيان اللبناني إلى الهاوية، أمّا الكيانات الأخرى فهي ليست بحالٍ أفضل.

كنت أول من استشرف خطر الهجرة اليهودية إلى فلسطين وحذّرت منها ومن مخططات اليهود التي ستتجاوز فلسطين لتطال كيانات الأمة جميعها، فلم يرغبوا بسماعك لأنّهم كانوا غارقين بعمالتهم، موافقين على بيع الأرض وإقامة دولة العدو. حاربوا رفعاً للعتب ومنعوا حزبك من المشاركة في القتال لأنّهم كانوا يدركون صدقك، وبأنّك نشّأت من انتمى إلى حزبك على قيَم لم يفقهوا معناها. علّمتهم بأنّ “الحركة القومية الاجتماعية” هي حركة صراع وتقدّم لا حركة استسلام وقناعة. إنّها ليست مستعدّة للتنازل بل للانتصار. وهم قنعوا فتنازلوا واستسلموا للإرادات الخارجية لأنّها أمّنت لهم مصالحهم فأمّنوا لها مصالحها لا مصلحة أمّتهم، هم أدركوا أنك لن تستسلم متى كان الأمر يتعلق بمصلحة الأمة مهما كانت الصعاب، وبعد إدراكهم استسهلوا الانصياع والانبطاح فمارسوا العهر السياسي جهاراً وقالوا علناً ما لا يُبطنون، تاجروا وفجروا وأظهروا العفة فكانوا أوقح من القحباء.

ولما كان هدفك رفعة أمتّك وعزّتها وكرامتها فقد ضمّنت مبادئك الإصلاحية توجّهاً جديداً يقضي بإنشاء جيش قوي “يكون ذا قيمة فعلية في تقرير مصير الأمة والوطن”، لا لكي يستخدم هذا الجيش للاعتداء على الآخرين، بل ليكون سداً بوجه أطماع الأعداء، إذ متى عرف أيّ عدو قدرات الجيش لحسب ألف حساب قبل أن يُقدم على أيّ عمل متهوّر. فماذا كانت النتيجة؟ في الكيان اللبناني رُفع شعار “قوّة لبنان في ضعفه” فأصبح مسرحاً للعربدة الإسرائيلية، وبيئة حاضنة لمخابرات دول العالم أجمع. وهذا كان سبباً مباشراً لنشوء المقاومة التي استطاعت وحيدة قهر جيش العدو وردعه عن إعادة محاولة مهاجمة لبنان. وبدلاً من أن يلتفّ كلّ الشعب حول المقاومة لأنّها أعادت إليه، ليس فقط الأرض المحتلة، وإنّما أيضاً الكرامة الوطنية، تحرّك المتزعّمون طائفياً وحرّكوا أغبياءهم مطالبين بتسليم سلاح المقاومة لكي يرضى عنهم العدو وراعيه الغربي. نفوسهم الذليلة تأبى الارتقاء وتفضّل الذلّ. دعوتَ إلى قيام جبهة عربية واحدة من أمم العالم العربي، فتسابقت هذه الأمم للاعتراف بدولة العدو وإقامة العلاقات الطبيعية معها وهم يرون كلّ يوم ماذا يفعل هذا العدو بجزء من أبناء أمّتك قتلاً وتدميراً وتهجيراً وتوسيعاً لرقعة احتلاله.

بالأمس القريب هبّ المواطنون في الكيان اللبناني لمواجهة من تسلّط عليهم لعقود، ونهب مقدّرات الدولة وأفقر المواطن، فكانت وقفتهم عزيزة كريمة أعادت الأمل إلى النفوس، ولكن إلى حين. كلّ ما طالبوا به لم يتجاوز مطالباتك وعملك الدؤوب لتحقيقها منذ ما يقارب القرن. تجاهلوا حزبك بل وضعوه في الخانة ذاتها مع الأحزاب الطائفية والإقطاعية لأنّهم لا يقرأون، ولا يعلمون أنّك كنت الثائر الأول على هذه الأنظمة التي علمت حقّ العلم أنّها لا يمكن أن تحقّق مصلحة الأمة وبالتالي مصلحة المواطن. خذلتكَ أمّتك سعاده مرّات ومرّات ولم تزل. أستطيع القول براحة ضمير بأنّ أمّتك لا تستأهلك. ربّما أتيت في الزمن الخطأ. هذا الزمن الرديء الذي لم يسمح لغاية الآن للمواطن برؤية عقلانية تقوده إلى طريق الخلاص الحقيقي. كلّ ما يحدث في أمّتنا يؤكد على صحة نظريتك القومية الاجتماعية، وعلى صوابية أفكارك ومبادئك التي وصفتها ورأيت فيها، لو طُبّقت، خلاصاً للأمة يقودها مجدّداً إلى ما كانت عليه من مجد وعزّة وكرامة. ولكن أنّى لهذا الشعب أن يدرك ذلك وهو لا يقرأ، بل ما زال يتحرك غرائزياً، ويتصرّف غرائزياً دون وعي أو تفكير.

كُثُر هم الذين ينظّرون ويتشدّقون ويعتبرون أنفسهم ضمانة للسيادة والحرّية والاستقلال، ومتى تعلّق الأمر بالعدو الإسرائيلي الذي يهدّد الكيان اللبناني والشامي والفلسطيني كلّ يوم، وتجول طائراته بحريّة في سمائنا وتقصف أبناء شعبنا، لا نسمع منهم حتى كلمة استنكار، ويصرّون على مهاجمة المقاومة ويطالبون صباح مساء على ضرورة تسليم سلاحها لأنّها برأيهم تشكّل دولة ضمن دولة. فهل تساءل هؤلاء مرّة واحدة لماذا وُجدت المقاومة؟ ألم يدركوا بعدُ أنّ غياب الدولة والجيش القادر على المواجهة كانا السببين الأساسيين لتنكّب بعض الأحزاب مهمة مواجهة العدو ودحره وتحرير الأرض؟ ألا يسمعون تعليقات بعض قادة العدو العسكريين والسياسيين عن خطر المقاومة على كيانهم ووجودهم؟ ألا يقرأون ما يكتبه كبار المحللين العالميين أنّه لولا الدعم المطلق لـ “إسرائيل” من قبل الغرب عامة والولايات المتحدة خاصة لما كانت العصابات اليهودية موجودة فوق جزء من تراب وطننا، ولما تمكنّت من الاستمرار لما يقارب ثلاثة أرباع القرن؟ وإذا هم لم يروا الحقيقة لا في الماضي ولا في الحاضر، فهل هناك من أمل أن يروها في المستقبل طالما أنهم في جهلهم قابعون، وعلى عهرهم مصرّون؟ لا مانع عند هؤلاء من التطبيع مع العدو، بل هم يروّجون لهذه الفكرة، بعد ان سعوا في الماضي إلى الاعتراف بكيان العدو المغتصب بدفع من الولايات المتحدة، خلال ما عُرف بالحرب الأهلية، عبر ما تمّ التعارف على تسميته باتفاق 17 أيار عام 1983. واليوم يجاهر أحد أركان أصحاب “السيادة” بأنّه كان وراء إسقاط هذا الاتفاق، والحقيقة يعرفها الجميع، وهي أنّ الرئيس والمجلس النيابي كانا موافقين على بنود الاتفاقية ما عدا نائبين اثنين هما: زاهر الخطيب ونجاح واكيم، وأنّ من أسقط هذه الاتفاقية هو الغضب الشعبي الذي أجبر المجلس النيابي على التراجع وعدم توقيع المعاهدة. فإن تمّ ذلك في عهد الرئيس أمين الجميّل فهذا لا يعني أنّه هو من أسقط الاتفاقية كما ادّعى منذ فترة.

عذراً سعاده، فمفهومك للسياسة يختلف عن مفهومهم. هم يقولون بأنّ السياسة هي فن الممكن، والممكن بالنسبة لهم يكمن بتحقيق مصالحهم على حساب مصلحة الأمة والوطن، وأنت أدركت أنّ السياسة هي فن تحقيق مصلحة الأمة والوطن وليس المصالح الخاصة. فنذرت نفسك لهذه الغاية الشريفة، فحرموك من تحقيقها. أردت أن تعود أمّتك إلى سابق عهدها قوة حضارية إنسانية مميّزة، تستعيد حقّها بالحياة الحرة الكريمة من الذين سلبوها هذا الحق، انطلاقاً من قناعتك بأنّ “الحق القومي” لا يكون حقاً في معترك الأمم إلاّ بمقدار ما يدعمه من قوة الأمة. فالقوّة هي القول الفصل في إثبات الحق القومي أو إنكاره. وأكدّت بأننّا “لا نريد الاعتداء على أحد، ولكننّا نأبى أن نكون طعاماً للأمم الأخرى”. ورفضت أن يُفرض علينا السلام بالقوة لأنه عندها يكون استسلاماً، فقلت: “إننّا نريد حقوقنا كاملة ونريد الصراع مع المصارعين لنشترك في إقامة السلام الذي نرضى به”. وها هي معظم دول العالم العربي تخضع لإملاءات العدو فتستسلم ذليلة مقهورة دون حياء، لأنّ المهمّ أن يبقى السلطان متربّعاً على العرش. وفي الوقت ذاته جزء كبير من شعبك بات مستعدّاً للتطبيع والاعتراف نكاية بالآخر المختلف.

عذراً سعاده، ربما أطلت الكلام، علماً أنني لو أردت استعراض ما وصلنا إليه على مختلف الصعد، والذي حذّرت منه منذ ثلاثينات القرن الماضي، لاستدعى ذلك منّي عشرات بل مئات الصفحات.

عذراً سعادة وألف عذر، وأعلم علم اليقين أنّ الاعتذار لن يقدّم ولن يؤخر، ولن يغيّر شيئاً من واقعنا المرير، ومن الانحطاط الخطير، ومن الإسفاف في الخطاب السياسي المثير للقرف والاشمئزاز . لم يبق لنا سوى الكلمة، لا بل جرّدوا الكلمة من سحرها، ومن فعلها، ومن رشاقتها، ومن إمكانية تغلغلها إلى العقول والقلوب.

متشائم أنا حتى الموت، وحتى القهر، وحتى اليأس، وحتى من الأمل.

وعذراً قلمي لأنني بتّ أستكثر الحبر الذي استنزفه على الورق دون جدوى، فقلّة هم الذين يقرأون، وقلّة أقلّ هم الذين يقبلون وجهة نظر الأخر، وإنْ قرأوا يحاورون.

عذراً قلمي سأرغم نفسي على حجرك إلى أجل غير مسمّى، علّني بذلك أحميك من فيروسين اثنين: الخلل العقلي والحَوَل الفكري، وإلى الوقت الذي يصبح للكلمة معنى، خاصة كلمات إعلامنا التي باتت رخيصة رخص الكرامات، تركّز على المبتذل من الكلام وتجترّ نفسها، وتستبعد كلّ آخر لا يشاركها الرؤية والرؤيا.

عذراً قلمي… آن لك أن تستريح وتُريح، لقد قلت ما يجب أن يُقال على مدى ما يزيد عن نصف قرن. أعرف أنّك لن تنام قرير العين، ففي عينك قذىً يستقطر الدموع الكريمة العزيزة في زمن عزت فيه الكرامة. وإلى أن يُصبح للثامن من تموز معنىً تدركه العقول النيّرة، استودعك ضمير الأمة الذي غفا منذ إعدام سعاده ولم يصحُ بعد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى