دراسات/مقالات

وسط أزمة الهويّة… الحلّ في النّهضة القومية الإجتماعيّة…

كتبت أ. ليليان حمزة/ ناشطة سياسية

أفقٌ مسدود وواقع عقيم. لرُبّ هاتين العبارتين لا تحملان الإيجابيّة التي نتقهقر لالتقاط طرف خيط يوحي بها.

حين تستشعر الشّعوب خطر الغرق في الهلاك والدّمار تبحث عن الخلاص، وعندما تدرك أنّها في قعر الانحطاط الفكري والسّياسي بين فكّي كمّاشة – الاحتلال السياسي المحليّ المفروض بقوّة المنظومة الفاسدة وبين تغلغل ثقافة الاستعمار عبر أدوات ناعمة انتهجت مسارًا طويلاً في غسل العقول وتغيير المفاهيم – تدرك الحاجة الماسّة إلى النّهضة.. وما أعظم حضور فكر أنطون سعاده في زمن القحط.

هو الذي أرسى مفهوم النّهضة القومية الاجتماعيّة ووحدة سورية الطبيعيّة بكافة جوانبها وسط مشاريع التّقسيم في العالم العربيّ، وعلمانيّة الممارسة وسط شراسة الهويّة الطّائفيّة والمذهبيّة، واحترام الإنسان الفرد في وقتٍ يُعامَل الفرد في العالم العربي بدونيّة لا رأي له ولا قيمة ولا حقوق معتبَرة، بل مجرّد وقود للحروب.

مجتمعاتنا العربيّة سقطت بسبب حجرها على نفسها في طوق الدّين وعدم الانفتاح على الآخر، ناهيك عن تقديس الحاكم، وواجب أداء الطّاعة له ظالمًا كان أو عادلاً، وعدم إدراكها التطوّر العالمي المتسارع، وسباق الأمم إلى السيطرة على العالم وثرواته، وخاصةً المنطقة العربيّة، وحجز مكان رائد لها في قيادة العالم. والأهم أنّهم فقدوا القدرة على انتقاء القادة المناسبين لرسم السّياسة الصّحيحة؛ حَكمتهم الغرائز والعقليات القبلية فقتلوا العقول المتنوّرة واغتالوا باعثيها. هذه الأنظمة الرّجعيّة هي وائدة الأفكار التّحررية التّنموية الرّافضة للاستعمار وأدواته. فقد اعتبر أنطون سعاده أنّ «من أعظم العقبات التي قامت في سبيل استقلال سورية الطبيعية التعصّب الديني، ذلك الداء العضال الذي أحدث شللاً في أعضاء الأمة السورية ووقف حاجزاً منيعاً بينها وبين ما ترمي إليه من النّهوض إلى مصاف الأمم الحية”.

جريمة العصر الكبرى كانت إعدام المفكّر المتنوّر أنطون سعاده وقد تكون لعنة التّاريخ ترافق الأنظمة التي ظلمته ووافقت على قرار تصفيته. هذه الأنظمة الذي قبِلت بالعبوديّة وساهمت في تفكيك مجتمعاتها، فلقيت مصيرها الحالي ووصلت إلى طريق شبه مسدود.

أسّس سعاده الحزب السوري القومي الإجتماعي عام 1932 لمواجهة المشروع التوسعيّ الغربيّ والوقوف سدًّا منيعًا بوجه المشاريع التّقسيميّة المذهبيّة في منطقتنا، فركّز على الدّولة القومية وأسُس الهوية القومية للدفاع عن وجودنا كشعب. وقد وضع مبدأ فصل الدين عن الدولة كمبدأ أوّل في المبادئ الإصلاحية لقيام الدولة على أسس المواطنة والانتماء والعدالة والديمقراطية من دون تمييز بين إنسان وآخر بناءً على أي اعتبارٍ كان.

 

ناهيك عن ذلك، أهم ما نبّه منه سعاده هو خطر المشروع الصهيوني على الأمة وضرورة تحشيد قواها إلى أي دين أو مذهب آمنت به، قائلاً: «كلّنا مسلمون لرب العالمين، منا مَن أسلم لله بالإنجيل، ومنا مَن أسلم لله بالقرآن، ومَن أسلم لله بالحكمة، فلا عدوَّ لنا يقاتلنا في ديننا وحقنا وأرضنا إلا اليهود»، خاصّةً أن اليهود رفضوا الاندماج في المجتمعات ونفروا من كلّ الديانات السّماوية. وهنا نلاحظ أن توجّه سعاده لم يلغِ منزلة الدين في معركة المصير القومي، بل اعتبر أن الدّين يصبّ في خدمة الإنسان والحياة وإرساء دين الأرض عبر منظومة من القيم الإنسانيّة.

وممّا لا شكّ فيه أن العالم العربي فوّت فرصة التقدّم فأساء إلى مفكّريه، فقابلته مصانع فكريّة واستراتيجيّة في الغرب بسرقة كنوزه المعرفيّة واستثمارها. إذا ما نظرنا إلى هيكليّة الاتحاد الإتّحاد الأوروبي والسّوق الأوروبيّة المشتركة لوجدنا أن هذا النّظام كان شكلاً من أشكال الوحدة الجغرافيّة والاقتصادية والاجتماعية التي كان يطمح لها أنطون سعاده من خلال توحيد العملة والانفتاح الاقتصادي والتّجاري والحدودي بين الدّول الأوروبية باعتبارها أمة واحدة. وهذا ما يُفتّرض أن يقوم عليه العالم العربيّ بأممه المتعددة، لكن أنظروا إلى حاله اليوم، فهو عبارة عن دول ممزّقة الأوصال غارقة في آتون الطّائفية القاتلة.

بالتّأكيد، ترك سعاده إرثًا عجز آخرون من مؤسسي الأحزاب في لبنان والعالم العربي على تركه. فحزبه لا يزال يعمل بعد سبعة قرون من وفاته وفقًا لعقيدة راسخة وقضيّة ثابتة بوصلتها فلسطين. فلم يحرّفوا الخطوط العريضة للحزب كما فعل آخرون. القوميون لم يكونوا يومًا جسر عبور للمؤامرات الكبرى التي تتسلل عبر الصّراع المذهبي بين الدّول، ولم يذوبوا في لعبة الأمم والأنظمة البالية، وهم يواجهون التّطبيع والخيانة ومشاريع التّهويد.

 

استحضار ذكرى ميلاد أنطون سعاده ليس عاطفيًّا بقدر ما هو منارةً للأفراد التوّاقة للتطوّر. ولكن بقدر احترامي لهذا الفكر، بقدر إيماني أن الفكر ليس جامدًا بل حيويٌّ وقابل لانتهاج منهجيّة علميّة، مع إمكانية إضافة لمسات عمليّة في مسار مواجهة الرّجعيّة المجتمعيّة والسياسية العائمة.

وسط المشهد السوداويّ في العالم العربي اليوم، لا بدّ من تحصين كل مشروع نهضوي قومي يوحّد أبناء المجتمع على أسس متينة تجعله بيئة حاضنة لخيار المقاومة على الصّعد كافة في مواجهة الحرب النّاعمة التّدميرية والانحراف القيمي والفساد المستشري فيه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى