ندوة حوارية في منفذية طرابلس بمناسبة عيد تأسيس «القومي»/ الياس عشي: العقيدة القومية الاجتماعية عقيدة فكرية واقعية بعيدة عن الطوباوية
نظمت مديرية الثقافة التابعة لمنفذية طرابلس في الحزب السوري القومي الاجتماعي بالتعاون مع المركز الثقافي القومي محاضرة بمناسبة عيد تأسيس الحزب تحت عنوان «أنطون سعاده ناقداً وأديباً»، ألقاها عضو لجنة منح رتبة الأمانة الياس عشي، بحضور منفذ عام طرابلس فادي الشامي وأعضاء هيئة المنفذية، وعدد من أعضاء المجلس القومي وجمع من القوميين والمواطنين.
قدّمت للندوة وأدارتها فتون رعد
ثم ألقى عشي محاضرته وجاء فيها: ما من حزب أقام الدنيا ولم يقعدها كالحزب السوري القومي الاجتماعي، فمنذ أن تأسّس عام 1932 وحتى اليوم، بقي في واجهة الحدث القومي أو الوطني أو السياسي، أو الثلاثة معاً، يتفاعل معها، أو يفعلها، ولكنه لم يقف منها قطُّ موقفاً رماديّاً، ولا موقف المراقب أو المتفرّج أو اللامبالي.
ومما لا ريب فيه أنّ عقيدة الحزب ـ النهضة التي أسّس عليها سعاده حزبه عام 1932، وخرج به إلى الملأ عام 1935 كانت السبب الأساس في بقاء الحزب، كلّ هذه السنوات، حيّاً، فاعلاً، ديناميكياّ، قادراً على تجاوز الأزمات، ولا سيما منها المواقف الكيانية والآنية والضيّقة التي تحكمت دائماً في أصول ومفاصل الأحزاب الطائفية والعائلية والعشائرية، متحمّساً للخروج من حالة الاستنقاع إلى حالة «النهر الذي لا نعبره مرتين» كما قال الفيلسوف اليوناني هيروقلاطس وهو يحثّ العقل اليوناني على الإبداع، والابتعاد عن التقليد.
العقيدة القومية الاجتماعية هي عقيدة فكرية واقعية بعيدة عن الطوباوية، يحكمها، بل يتحكم فيها، دستور تفتقر إليه الأحزاب التي في معظمها، أحزاب تراكمية، كما يقول الكاتب هنري حاماتي في كتابه «جماهير وكوارث». وقد أشار إلى ذلك الصحافي بسام سعد في دراسة له عندما قال «إنّ للحزب السوري القومي الاجتماعي دستوراً ينظّم الحياة التشريعية والتنفيذية والقضائية، وهذا لا نراه قط في الأحزاب الأخرى».
العصور الأدبية والمفهوم النهضوي
ما يهمّنا في هذه الندوة هو الإجابة عن هذا السؤال: هل سعاده واحد من أدباء عصر النهضة؟
وقبل الإجابة دعوني أذكّر بالعصور الأدبية وهي على التوالي: عصر ما قبل الإسلام المسمّى خطأ بالعصر الجاهلي، عصر صدر الإسلام، العصر الأموي، العصر العباسي، عصر الانحطاط أو كما يسمّيه البعض عصر الانحدار، وعصر النهضة، وعصر الحداثة.
وسنتوقف مع عصر النهضة، العصر الذي عاش فيه المفكر أنطون سعاده السنوات الأولى من تجاربه الفكرية والأدبية، بدءاً بالمعاني اللفظية اللغوية لهذه الكلمة التي أرادها سعاده واجهة لحزبه، نقول:
نهض نهضاً: قام.
نهض عن مكانه: ارتفع عنه.
نهض إلى عدوّه: أسرع إليه.
نهض النبت: استوى.
نهض للأمر: قام واستعدّ.
إذن… في فعل «نهض» معنى القيام الذي يقود إلى معنى القيامة، والارتفاع، والسرعة، والاستواء، والاستعداد، وكلها معانٍ تناقض الجلوس والانخفاض والبطء والالتواء والارتجال، ومن ثَمّ التقاعد والتقاعس والاستنقاع.
يقول سعاده في حديث إلى الطلبة: «عندما نقول نهضة نعني شيئاً واضحاً لا التباس فيه. النهضة لا تعني الاطلاع في مختلف نواحٍ ثقافية متعدّدة، وفي التيارات الفكرية الموزعة التي جاءت مع بعض المدارس من انكلوسكسونية ولاتينية وغيرها، وأنها لا تعني مجرد الاطلاع والتكلم في المواضيع المتعددة أو المتضاربة بدون غاية وقصد ووضوح».
اللافت في هذا الحديث أمران:
الأول: تركيز سعاده على الوضوح. ولدى قراءاتي لكتابات سعاده لاحظت ابتعاده عن مذهب الرمزية الحاضر بقوة في عصره. سعاده في كتاباته كان يصل إلى العقل مباشرة. وإذا كانت الفصاحة تعني، لغةً، الظهور فصح الصبح… عيد الفصح ، والبلاغة، لغةً، تعني الوصول بلغ إلى مكانه ، فإنّ أنطون سعاده كان فصيحاً وبليغاً بامتياز. والوضوح لا يكون إلا في العقل المنهجي، وعند أصحاب الأفكار النيرة.
الأمر الثاني: رفض سعاده استجداء النهضة من مدارس لا تعكس روح الأمة السورية.
ويتابع سعاده في المناسبة ذاتها: «… إنّ النهضة لها مدلول واضح هو: خروجنا من التخبّط والبلبلة والتفسّخ الروحي بين مختلف العقائد إلى عقيدة جليّة صحيحة واضحة، نشعر أنها تعبّر عن جوهر نفسيتنا وشخصيتنا القومية الاجتماعية، إلى نظرة جليّة، قويّة، إلى الحياة والعالم».
إذن… مع سعاده «الخروج» و»الاستواء» و»الحركة»، شروط لا بدّ منها كي نصل إلى الوضوح، والتخلص من فوضى الأفكار الدخيلة.
الآثار الأدبية في إرث سعاده الثقافي
أولاً: تأثر سعاده بوالده الدكتور خليل سعاده، فكتب في «الجريدة» و»المجلّة» موضاعاته التالية: آمال الوطن الوطنية غورو وسورية الوحدة السورية ومخاوف اللبنانيين السوريون والاستقلال، إلى جانب مقالات أخرى أظهرت المنحى الأدبي في أسلوبه.
ثانياً: على الرغم من أنّ موضوعاته هذه سياسية، لكنها تميّزت بالدقة العلمية، والرؤية النافذة، والصورة اللافتة، وهي شروط أساس في الكتابات الأدبية يقول في إحدى مقالاته: «الدولارات أعمت بصيرة الأميركيين، فأصبحوا يوافقون على الاعتداء على حريات الأمم بدم بارد وعجرفة لا متناهية». في هذا النص صورتان: الدولارات أعمت، والدم البارد.
ثالثاً: يقول الدكتور ربيعة أبي فاضل: «… مع أنطون سعاده ازدهر الأدب ذو النزعة السياسية الواضحة، فتحوّل من الحماسة الفارغة شعرا الفخر والمديح ، ومن الخطاب الوطني العام، الغامض، إلى رسالة أدبية ملتزمة، وحركة فكرية، تدافع عن قضية الأمة وتنأى عن التطريب اللفظي».
رابعاً: دعونا نضع خطّاً تحت العبارتين التاليتين: رسالة أدبية ملتزمة، والتطريب اللفظي. ونطرح السؤال التالي:
ماذا يعني ذلك؟
1 ـ الخروج من العام إلى الخاص، أيّ إلى تحديد المشكلة بعينها، والعمل لإيجاد حلول لها. يمكننا أن نتحدّث ليلَ نهار عن الحرية والسيادة والاستقلال دون أن نصل إلى نتيجة، ولكن أن نحدّد معنى الحرية وحرية من، ونوع السيادة وسيادة من، وشكل الاستقلال واستقلال من، ذلك هو المطلوب من الحركة الأدبية إلى أيّ زمن انتمت.
2 ـ الالتزام الأدبي.. وحول هذا المعنى حدث الاشتباك بين النقاد رأى البعض أنّ الكتابة فنّ من الفنون الجمالية، وهذا هو دورها في الأساس، ورأى البعض الآخر أنّ الكتابة التزام بقضايا الإنسان الاجتماعية والسياسية والأخلاقية، وهم أصحاب مدرسة الالتزام. سعاده كان واحداً من أهمّ رواد هذه المدرسة.
3 ـ الإيقاع وحده لا يصنع أدباً، إنه لغة البدائيين، ولذلك كان الشعر أسبق في الظهور من النثر. من هذه النقطة انطلق سعاده ليضع الملامح الأولى للقصيدة النثرية، التي تطوّرت خلال سنوات قصيرة، ودخلت محافل الأدب بقوة، وخاصة من خلال مجلة «شعر» التي أسّسها ونشر بها رواد الحداثة في الحزب السوري القومي الاجتماعي.
يقول أنطون كرم في كتابه «ملامح الأدب العربي الحديث»: «إنسرى في الأدب روح استقلالي، منتقلاً من النداء الخطابي، والعناوين الكبرى، إلى التحليل العقائدي المتماسك… ينطلق من الحزب السوري القومي الاجتماعي».
وضوح المعادلة
1 ـ أنطون سعاده يضع للأدب السوري وظيفة سياسية وأخلاقية واجتماعية، ويرفض أن يقتصر هذا الأدب على الإيقاع والصورة وحدهما، أو أن يبقى أسير المناسبات الفردية، أيّ أسير أدب المناسبات شرح مختصر لشعر المناسبات .
2 ـ أنطون سعاده زاوج بين العلم والفن، أيّ زاوج بين الدقة العلمية وبراعة التصوير، دون أن يختلّ التوازن بينهما. والدكتور شوقي ضيف الناقد المصري المعروف، يقول في هذا المجال: «إذا كانت العلوم تنظم حياتنا المادية، فإنّ الفنون تنظم حياتنا المعنوية.»
أنطون سعاده كاتب مقالة نقدية من الطراز الرفيع
1 ـ في البداية: ما هي المقالة؟ المقالة فن من فنون الكتابة، والمقالة، كما حدّدها النقاد، «قطعة إنشائية، ذات طول معيّن، تبحث في موضوع واحد، تصلح للقراءات السريعة، نشأت مع نشوء الصحافة».
2 ـ مقالات سعاده، وخاصة في كتابه «الصراع الفكري في الأدب السوري» اكتملت فيها شروط المقالة النقدية فهي قصيرة، وتصلح للقراءات السريعة، وتبحث في موضوع واحد.
3 ـ إلى كلّ ذلك كان سعاده، في مقالاته، محايداً، وصارماً، وقاطعاً في رأيه، فلا يمرّ حدث أدبي إلا ويكون له بالمرصاد. ففي سنة 1932 ألقى ميخائيل نعيمه في بيروت خطاباً جاء فيه: «إنّ القوة هي في الأمم العاجزة المستغنية عن التسلح، وأنّ الضعف هو في الأمم المستكثرة من آلات الحرب»!
رفض سعاده هذا النوع من التنظير، واتهم صاحبه بالصوفية الهدامة، وأعلن بوضوح: «إنّ ما يتحدث عنه نعيمه قد نبذته سورية، ولا تفكر في جعله مثالاً أعلى لها».
ولا يغيبن على أحد المقاربة التامة بين ما قاله نعيمه، وما ردّده پيار جميّل عندما قال بعد نصف قرن: «إنّ قوة لبنان في ضعفه»!
أنطون سعاده
يدعو إلى التجديد في الأدب
1 ـ على مرّ العصور كان ثمة من يدعو إلى التجديد، ورفض التقوقع في قوالب جاهزة، وحتى لا أطيل أكتفي بما قاله أبو نؤاس في ذلك:
عاج الشقيّ على رسم يسائله
وعجت أسأل عن خمّارة البلد
أو:
قل لمن يبكي على رسم درسْ
واقفاً ما ضرّ لو كان جلسْ
أو:
لتلك أبكي ولا أبكي لمنزلة
كانت تحلّ بها هندٌ وأسماءُ
وروح السخرية واضحة في هذه الأبيات.
2 ـ والدعوة التي أطلقها سعاده لفتح النوافذ أمام الأدب، كي تتنفس حروفه من رياح التغيير التي تجتاح العالم، وليكون لها هوية قومية واضحة لم يتنازل عنها طوال حياته القصيرة التي عاشها، يقول: «… إنّ التجديد في الأدب هو مسبّب لا سبب، هو نتيجة حصول التجديد أو التغيير في الفكر والشعور، في الحياة وفي النظرة إلى الحياة. هو نتيجة حصول ثورة روحية، مادية، اجتماعية، سياسية، تغيّر حياة شعب بأسره وأوضاع حياته، وتفتح آفاقاً جديدة للفكر وطرائفه، وللشعور ومناحيه».
أنطون سعاده شاعراً
كان أنطون سعاده مسجوناً عندما قام بتأليف النشيد الرسمي للحزب، فاختار مجزوء الرمل، مع مراعاة القواعد العروضية المعترف بها، والذي مطلعه:
سورية لك السلامْ
سورية أنت الهدى
لكن سعاده الداعي إلى التجديد، والخروج من طقوسية القوالب الجاهزة، ترك لنا بعضاً من شعر ينتمي إلى القصيدة النثرية حيث نقرأ له في «فاجعة حب»:
إذا انبثق الفجر وبزغت الغزالةْ
وفتحتِ عينيكِ للنورْ
ورأيت الأزهار تنشقّ عن أكمامها
وتنشر في الفضاء عبق أريجها
فاذكري زمناً كان لنا ربيعُهْ
في هذا النص المقتضب نقع على صور إيحائية، وعلى إيقاع داخلي، وهما شرطان أساسان من شروط القصيدة النثرية التي تبنّتها مجلة «شعر» في خمسينيات القرن الماضي، والتي أسّسها يوسف الخال، وكتب فيها أدونيس والماغوط وغيرهما من شعراء الحداثة.
ختاماً
لو شئت أن أعدّد مميّزات سعاده الأدبية والنقدية لما انتهيت، لكنني أرى أن يكون الختام مسكاً، وذلك بالعودة إلى ما جاء في مقالة من مقالات سعاده عن رؤيته المستقبلية لواقع الأدب السوري، يقول:
»… إنّ التقليد قد أعمى بصائرهم عن الحقيقة، وإني لأعتقد أنه لا بدّ من القيام بجهود جبارة قبل أن تصبح النهضة الأدبية معبّرة عن حياتنا القومية، ولكني موقن بأنه سيجيء اليوم الذي يتحقق فيه ذلك، وتصير الروحية والعقلية السورتان، الغنيتان بمواهبهما الطبيعية، مَعينين ينهل منهما الأدباء وأهل الفنون والعلماء والفلاسفة الذين يخرجون من صميم الشعب السوري».
ولقد تحققت رؤية سعاده، فولدت مجلة «شعر» على أيدي شعراء قوميين، وما تزال بإبداعاتها، رغم توقفها عن الصدور، تعتبر المرجع الأهمّ في أية دراسة تتناول الشعر الحديث.
ألا تستحق، أيها الفرقاء، هذه الرؤية الأدبية عند سعاده، أن نتوقف عندها، فنعقد المؤتمرات، ونكتب كما نفعل عندما نكتب عن عقيدته وفلسفته وفكر؟ ألا يستحق منّا سعاده طالباً جامعياً قومياً واحداً يتقدّم بأطروحات حول إبداعات سعاده الأدبية؟
وأخيراً لا بدّ من الإشارة إلى أنّ أنطون سعاده ترك بصمات واضحة عل كلّ جيل عاش معه، والأجيال التي جاءت بعد اغتياله، نذكر منهم: صليبا الدويهي، جورج مصروعة، كريم عزقول، علي أحمد سعيد أدونيس ، كمال خير بك، وليم صعب، خليل حاوي، هشام شرابي، نذير العظمة، غسان تويني، نواف حردان، رشدي معلوف، محمد الماغوط، عبدالله قبرصي، محمد يوسف حمود، فؤاد سليمان، إميل مبارك، محمد شامل، سعيد عقل، توفيق الباشا، زكي ناصيف، عصام العريضي، خالدة سعيد، فايز خضور، غسان مطر، حليم جرداق، أسد الأشقر، عجاج المهتار، دريد لحام… وغيرهم كثيرون.
ويعلق الدكتور ربيعة فاضل على ذلك قائلا: «… ولئن رأينا بعض الذين شربوا من بئر هذا الرجل يرمون في البئر الحجار، ويقللون من أهمية الجمرة التي طهّرت أعينهم، وأصابعهم، والمِساحات الواسعة أمامهم، فإنّ اعتمادي على النصوص وعلى التاريخ، وعلى الشهادات الحية، لا يدع مجالاً للشكّ في أنّ الآدب القوميَّ الملتزمَ، والغنيَّ، والمتنوّعَ الجوانب، ما كان ليكون من دون سعاده الابن، حاملِ رسالةِ سعاده الأب، رجل التجديد، والتحرّر، والعلم، والوطنية، الدكتور خليل سعاده».