أنطون سعاده، يكفي ذكر الاسم في أوّل المقال، لكي تتراءى لك بين السطور معالم الفكر المشبّع بالإيمان، ولكي ترتسم فوقها تعابير الكلمات المُفعَمة بالوجدان، إيمان عقيدة صحيحة دعا لاعتناقها، ووجدان أمّة عريقة رغب وحدتها، إنّه الإنسان الذي تآمروا عليه في عتمة ظلامهم لإرساله نحو العدم، بتهمة أنّه أراد لهم في ضياء نوره النهوض نحو الحياة، إنّه الزعيم الذي مشى نحو قدره مبتسماً، شامخ الرأس، مستخفّاً بكيفية الموت، معظّماً ماهية سببه، مؤكّداً ومُصدّقاً بدمه مقولته “نحن جماعة لم تفضّل يوماً أن تترك عقيدتها وأخلاقها لتنقذ جسداً بالياً لا قيمة له” فكيف للتاريخ ألّا يخجل كلّما جاء الثامن من تمّوز.
ليس من الضروري لك الانضواء بما أسّسه عظيم الفِكر سعاده، لتنطقَ بالحقّ تجاه ما حقّق من إنجازات معرفيّة، وأن تُدركَ بالمنطق الحقائق التي نفض عنها ما علق عليها عبر التاريخ، فبانت بسطوع ذهنه، ناصعةً لامعةً لا غبار عليها، وهل من مُشتغل بالعلم على صوابية الانتماء، لا يأخذ في الاعتبار ما وضّحه أنطون سعاده حول الفِكر القوميّ الاجتماعيّ، وشرحه حيال بوتقة الانصهار المُجتمعيّ في الزمان والمكان لبلورة معالم الأمّة وضرورة وحدتها، وهل لأيّ مهتمّ بالشأن المسلكي للجماعات، أن لا يُسلّم فعلاً بأهميّة الأخلاق السويّة التي تستوجبها الشعوب لنهضتها نحو تأكيد حقّها بالوجود الكريم بين الأمم، وهل كلّ هذه القناعات هي خيانة للوطن، تستدعي من السلطات التي ما فتئت تجرّ سلاسل الوصاية الأجنبيّة بحريّة استقلالها، الادّعاء والملاحقة والمحاكمة الفوريّة بهيئة صوريّة كانت تمارس انتداباً وليس تمثيلاً للشعب، وتنطق بالإعدام من دون قرائن داعية له، وتردّ طلب العفو باجتماع سريع رغم امتناع الرئيس الأعلى للقضاء المخوّل قانوناً تقديمه عن النظر به، وجلب نائبه وبعض أعضائه والجلّاد من فراشهم إلى القصر الجمهوري ليصار الى رفض الطلب قبل بزوغ شمس اليوم التالي، وتنفيذ الحكم عند فجره على الرمل، لتكون أسرع محاكمة عُرفيّة للمحاكم المدنيّة يشهدها التاريخ السياسي، أم أنّ سورية للسوريّين كأمّة واحدة، جريمة تستوجب قتل المؤمن بها.
بعد سبعين سنة وسنة، لا بدّ لكلّ مفكّر حرّ بأن يقف ويسأل الضمير الإنساني حول كلّ ما أحاط بذاك الإعدام المُشين والمُجرم من تدبير، والكشف عن كامل أسراره وخفاياه، والتي لم تزل في جوارير أقبية أجهزة المخابرات الصدئة، وليطلب ضرورة فتح ملفّه المُغلق حتّى تاريخه، ومُساءلة الجهّات الموصولة عبر الإرث، باستمرارية التمثيل المزيّف البغيض، وتحميلها الذنب والعقاب.
أجل، هذا ما يدعو إليه الضمير الإنسانيّ، بالرغم من تغييبه في هذا الزمن المليء بالغرائب، وعلى ما نشهده من الواقع المعيش بكلّ المآسي التي تجتاح بلادنا والعالم، فإنّه أحوج ما يكون لنا الآن، هو تثبيت الخطى على الدرب الأساس للمبادئ التي وضعها أنطون سعاده، والنهوض بها في المجتمعات أينما كان، والتشبّث بتعاليم فكره، ولأنّ الطريق نحو وحدة الأمّة طويلة تمرّ عبر الأجيال، ويستوجب من المؤمنين بها عدم السقوط في منتصفه، مع لزوم مداومة النظر بطريقة العرض لفهم ما قاله وأسّسه، ولمباشرته بشكلٍ بنّاء وحاضر لنشر العقيدة الثابتة التي لا تتغيّر، وليُساعد على استمرار ما حقّقه وأكّده بحياته المناضلة التي عاشها شاكراً واهبَها، وأتمّها شاكراً مستهدفَها، والتي لم يُنهِها إعدامُه الذي هو عارٌ يَعرَقُ به جبين الأشرار المجرمين الحاملين خِزي الوَصْمة، بل خلّدها استشهادُه الذي هو غارٌ يَشرُق به جبين الأحرار المؤمنين بالبقاء للأمّة، والصارخين بتحيّة الحياة لأبناء الحياة.