الولايات المتحدة الأميركية التي أشعلت العالم وأرهقت الشعوب بشعار الديمقراطية وحقوق الإنسان، واقتحمت بالسلاح والمال والإرهاب العقول البشرية الضعيفة علها تغيّر في مشاعرها المناهضة للسياسات الأميركية في مناطق مختلفة من العالم.. سقطت في العراق وأفغانستان، وفشلت بتركيبتها وصفقتها الصهيونية للسلام في المشرق، وتشوّهت صورتها الى الأبد بافتعالها الحرب على ما يسمّى الإرهاب، إلى جانب قضايا أخرى أبرزها تجويع الشعوب وزرع الفقر والجهل والمرض.
الولايات المتحدة التي خططت باسم الحرية لـما يسمى “الفوضى الخلاقة” وحرّكت الشوارع العربية وأخرجت الإرهابيين من السجون وسهّلت انخراطهم في أجندتها العنفية والإرهابية! الدولة التي سرقت مليارات الدولارات من الأماكن التي تواجدت فيها؛ نراها الآن تدفع ثمن جبروتها وظلمها رقماً من الدولارات قد لا يساوي قيمتها؛ 20 دولاراً مزوّرة ثمن خرابها..
هي الحرب المرتدّة على الظالم! وهي الشوارع الملتهبة بغضب الشعب الناقم على كذب السلطة الأكثر إجراماً وعنصرية في تاريخ البشرية! ملايين الأطفال والنساء والشيوخ التي انقطعت أنفاس وجودها في الحياة، وبعد رحيلها الى الموت، بفعل جرائم البيت الأبيض، تشهد على انقطاع أنفاس “جورج فلويد” الإنسان، المقتول عمداً بركبة شرطي في مدينة مينيابوليس في ولاية مينيسوتا… ليشهد العالم مجدّداً على منظومة القيم الإنسانية والأخلاقية المفقودة في الولايات المتحدة الأميركية، والتأكيد على أنّ الأزمة المفتعلة في هذا الكون هي أزمة أخلاق.
في هذا الإطار، نرى أنّ ما يحصل في أميركا قد تنبّأ به أنطون سعاده منذ أكثر من تسعين عاماً بقوله “الظاهر أنّ لمعان الدولارات قد أعمى بصيرة الأميركيين حتى أنهم أصبحوا يوافقون على الاعتداء على حرية الأمم بدمٍ بارد وعجرفة متناهية، غير حاسبين أنّ مثل هذا العمل الشائن الذي يأتونه جارحين عواطف أمم كريمة كانت تعتبر الأميركيين وتعتقد فيهم الإخلاص الذي أفلس في الغرب إفلاساً تاماً، هازئين بشعور تلك الأمم صافعيها في وجهها جزاء محبّتها لهم، وبين تلك الأمم من قد ضحّت بكثير من شبانها وزهرة رجالها في سبيل الذوْد عن شرفهم وعلمهم أثناء الحرب العالمية الهائلة التي كان المحور الذي تدور عليه الذوْد عن الحياة لا عن الشرف، عملاً معيباً. أميركا ما هي إلا بربرية مندغمة في المدنية، وسقوط أميركا من عالم الأخلاقيات”!
ما يثبت لنا أنّ القضية لا تتعلق برجل ركع فوق رقبته شرطي عنصري وهو يتوسّله بأنه لا يستطيع التنفس، وأن لا يقتله! بل هي قضية عالم بأسره يصرخ منذ زمن، وحتى الاختناق، في وجه الولايات المتحدة الأميركية، يكفي قتلاً وعنصرية وإجراماً واحتلالاً وسرقة وتدميراً…
وهنا لا نقف عند حدود العنصرية التي ما زالت متغلغلة في المجتمع الأميركي، ضدّ ذوي البشرة السوداء، بل نحن أمام إمبراطورية من القتل والإجرام والحروب العشوائية لاحتلال الأرض وإذلال الشعوب وسرقة الموارد والثروات..
وبالتالي، التاريخ لا يرحم ولا يتوقف عند انقطاع أنفاس فلويد… بل هو راسخ في ذاكرة البشرية لتاريخ الولايات المتحدة الأميركية الأسود، المكتوب بدماء الملايين من القتلى والجرحى من الجنود والأطفال والنساء والشيوخ.. من حروب وغزوات واحتلال وتدخلات خارج أراضيها، تكاد لا تسلم دولة في العالم من حقدها واستغلالها..
الولايات المتحدة الأميركية التي أشعلت فتيل ما يسمّى بـ “الثورات العربية” ودعمت الاحتجاجات والتظاهرات في الشوارع العربية، وفي سورية، تتصدّر احتجاجات شعبها اليوم عناوين الصحف العالمية. إلا أنّ هذه المظاهرات العنيفة التي تجتاح المدن الأميركيّة قد تكون موجّهة ومفتعلة. وهذا ليس بالأمر الغريب على التركيبة السياسية الأميركية، خاصة أننا أمام مجتمع سياسي أميركي منقسم على ذاته، في الخطاب السياسي؛ وفي مخاطبة الجمهور، لنرى التشابه في الثقافة الأميركية القائمة على استغلال وتوجيه طاقات شعبها بما يخدم مصالحها الداخلية. وهي الثقافة نفسها، والخطاب السياسي نفسه، الذي يستخدم في السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأميركية. والقائم على التقسيم، وتأجيج الصراع والعنف واستغلال الشعوب واضطهادها!
من هذا المنطلق، حادثة جورج فلويد، قد لا تكتفي بإعادة فتح ملف الاضطهاد الذي يتعرّض له المواطنون السود فحسب، بل هي تسير بخطى ثابتة وسريعة لتوجيه الاتهام الأساسي لإدارة الرئيس العنصري دونالد ترامب، وخطابه العنصري اللا إنساني واللا أخلاقي الذي زرع البغض والتفرقة في عقول المواطنين الأميركيين.
من هنا، كيف يمكن مقاربة ما افتعلته الولايات المتحدة الأميركية من إحداث شغب في العالم، مع ما تشهده من غضب وردات فعل قاسية وعنيفة على مقتل فلويد، من أعمال شغب، وسرقة محال تجارية وإحراقها، وإحراق سيارات الشرطة، ومهاجمة عناصرها!
هل تشبه “الفوضى الخلاقة” التي استخدمت في العالم العربي وسورية، هذه الفوضى العارمة غير الخلاقة في الولايات المتحدة الأميركية؟ يبدو أنّ التحليل المنطقي لحقيقة ما يجري، يبيّن بوضوح أنّ هذه الاحتجاجات لا تؤكد فقط على السلوك العدائي للأميركيين أصحاب البشرة البيضاء، تجاه مواطنيهم من السود، بل تؤكد على الوجه الحقيقي للإدارات الأميركية المتعاقبة الذي افتقد للمساواة والعدالة والإنسانية واحترام حقوق الإنسان… هذه الحقوق التي لم تستطع الإدارة الأميركية تحقيقها في المجتمع الأميركي، فكيف يمكن لها أن تحققها لدول العالم؟.. ما يبيّن لنا بوضوح أنّ جورج فلويد ليس وحده الضحية، ولا المواطنين السود؛ بل نحن أمام سياسة أميركية حصدت ملايين الضحايا من كلّ الفئات المجتمعية والثقافية/ ومن كلّ مجتمعات العالم.
في النهاية، قد لا يجوز الحديث الآن عن الإرهاب في أحداث الولايات المتحدة الأميركية، باعتباره مرتدّاً على من يصنع الإرهاب ويرعاه! الا أنّ التحليل السياسي، قد يجيز لنا، أن نتوقع عودة الإرهاب الى بلده الأمّ.. ومن المتوقع أيضاً أن يجنّد البيت الأبيض المواطنين السود لمكافحته!