اشتهرت في الغرب في أواسط الألفية الثانية محاكم التفتيش وكان هدف تلك المحاكم ضمان العقيدة المسيحية ومحاكمة غير الملتزمين بها. وهي شكلت في حينه مثالاً للقمع والتعصّب إضافة الى استعمال التعذيب لانتزاع الاعترافات واعتمادها على أقوال شهود بحق المتهم.
منذ حوالي أسبوع وعلى هامش المؤتمر الصحافي للمكتب التنفيذي للاتحاد العمالي العام وقبل المباشرة بالتسجيل من خلال حديث خاص مع زملائه حول تقديم واجب العزاء ورد على لسان الدكتور بشارة الأسمر رئيس الاتحاد كلاماً طال نيافة البطريرك الراحل مار نصرالله بطرس صفير حول مظاهر تقديسه، وبالرغم من أنّ ما ورد على لسان الأسمر هو كلام مرفوض بالمطلق نظراً لموقع مطلقه ولحساسية الكلام واحتراماً لمقام المتوفى، ولما قد ينتج عنه من تداعيات وقد نتج عنه بالفعل ما نتج، إلا أنّ هذا الكلام كما هو واضح ورد في معرض التساؤل بشكل لا يرقى إليه الشك بأنه كلام غير مقصود وعفوي وضمن الحلقة الضيّقة ولم يقصد نشره ولم يتعرّض أبداً للشعائر الدينية لا من قريب ولا من بعيد،
ومن سوء الصدف كان مذياع إحدى المحطات مفتوحاً وقد سجل الكلام ووزّعه عمداً دون احترام خصوصية مطلقه وخصوصية نيافة البطريرك وبهدف تأجيج الأمور في مرحلة حساسة مما يوجب اتخاذ إجراءات قانونية قاسية بحق الفاعل.
وعلى أثر ما حصل انبرى الطائفيون من أصحاب المصالح السياسية الضيقة بتأجيج المشاعر لدى بعض المواطنين الحسني النية وكلّ ذلك لغايات انتخابية ضيقة ومزايدات حتى على حساب المصلحة العامة، فدعوا كلّ من موقعه أياً كان حجمه الى صلب بشارة الاسمر لكونهم يمثلون شرطة الأخلاق الدينية والزمنية إلا أنهم نسوا عن عمد أنه قبل يومين وأثناء وقبل تشييع غبطة البطريرك حوّل هؤلاء جميعاً المناسبة الأليمة الى محطة يطلقون من خلالها التصريحات بهدف استغلال سياسي رخيص ومصالح ظرفية ظاهرة يخجل منها مَن شاهدها فكيف بفاعلها، وكلّ ذلك بعيداً عن الإيمان والصلاة لنفس المغفور له كما تقتضيه الحالة.
وبالرغم من تقديم الفاعل اعتذاراً عن كلامه وطلب المسامحة والمغفرة، لم يلق آذاناً صاغية من أحد حتى من الكنيسة، وانهالت عليه الشتائم والتهديد من كلّ حدب وصوب وصدرت التعليمات للنيابات العامة ولأجهزة الدولة الأمنية لإلقاء القبض على المجرم ومحاكمته ميدانياً، وبأنه مجرم الجمهورية ومفسد الأرض والعباد والطبيعة والماء والكهرباء والمالية العامة إلخ…
بالرغم من كلّ ذلك وعدم جواز ملاحقة الدكتور بشارة الأسمر عن الفعل المقترف من قبله دون ادّعاء شخصي ذهب طوعاً الى التحقيق واعترف بارتكابه مخالفته الأدبية وابتدأت رحلة الجلجلة والمخالفات القانونية التي لم تنته بعد، بالرغم من مرور حوالي عشرة أيام على اعتقاله تعسّفاً.
وبالعودة الى ما حصل من الناحية القانونية وما اقترفه بشارة الأسمر ومدى جواز ملاحقته قانوناً لا بدّ من توضيح ما يلي:
1 ـ إنّ جرائم الذم والقدح الواردة في الفصل الثاني الجرائم الواقعة على السلطة العامة هي الأفعال التي تتعلق بالذم والقدح الذي يطال الموظف أثناء قيامه بوظيفته او بمعرض قيامه بها. ومن الطبيعي ان لا تنطبق هذه الجرائم على البطريرك رحمه الله لكونه خادماً للرب وليس موظفاً لدى أحد سواه، إنّ جرائم القدح والذم المذكورة في هذا الفصل يحق فيها للنيابة العامة التحرك عفواً دون ادّعاء من المتضرّر.
وبالتالي فإنّ ما قام به الدكتور بشارة الأسمر لا يمكن مقاربته إلا من خلال المواد 582 وما يليها من قانون العقوبات، وهذه المواد لتطبيقها على الحادثة يجب توفر أكثر من شرط:
1 ان يحصل قدح وذم بأحد الناس عن قصد وهو أمر غير متوفر في حالتنا الحاضرة إذ انه واضح بأنّ ما حصل لم يتخطَّ موضوع حديث خاص ولو كان يتضمّن إساءة من خلال الدعابة. وهو أمر لا يليق لا بمطلقه ولا بمن أطلق ضدّه الكلام ومرفوض.
2 إنّ الشرط الثاني لتحقيق الجرم هو أن يحصل النشر للفعل بصورة متعمّدة وفقاً لنص المادة 209 عقوبات ايّ نشره علناً ومجاهرة وبصورة متعمّدة وهو أمر أيضاً غير حاصل، إنما جرى تسريب الحديث بصورة غير أخلاقية مما أدّى الى بلبلة وتحريض مسؤول عنها من سرّب عمداً ما حصل.
3 – أما الشرط الأهمّ فهو الوارد في المادة 586 بأنّ الدعوى لا تتحرك إلا في حال اتخاذ المعتدى عليه صفة الادّعاء الشخصي، أما إذا وجه الذم والقدح الى متوف جاز لأقاربه حتى الدرجة الرابعة دون سواهم حق الملاحقة، وبالتالي فإنّ الملاحقة الحاصلة من قبل النيابة العامة وإجراءات الادّعاء والتوقيف هي باطلة بطلاناً مطلقاً، بما فيه استقالة بشارة الأسمر من منصبه في رئاسة الاتحاد العمالي العام أثناء توقيفه ومن داخل السجن وتحت الإكراه هي أيضاً باطلة ويمكنه طلب إعلان بطلانها أمام المراجع القضائية المختصة.
أما ما جرى ترويجه والاستناد إليه لتبرير المخالفات القانونية الحاصلة والاعتقال هو أنّ بشارة الأسمر حقّر الشعائر الدينية ومارس الازدراء بتلك الشعائر. إنّ هذا الأمر هو قمة في التحريف والهرطقة القانونية إذ إنّ بشارة الأسمر لم يقارب أية مسألة تتعلق بالشعائر الدينية او بالدين او حثّ أحداً على الازدراء بتلك الشعائر أو جدّف باسم الله علانية، واستجوابه من قبل حضرة قاضي التحقيق على مدى ساعتين عن حادثة استغرقت ثلاثين ثانية ربما للتأكد من مدى التزامه بمعتقده الديني على قاعدة ما سبق وأوردناه.
والى كلّ من شهر سيفه وما زال لذبح «المجرم» كما جرى وصفه، وكما هو رائج في هذه الأيام والى كلّ من رفض وردّ تائباً وأقفل الأبواب في وجهه، فإنّ أبواب الأب السماوي مفتوحة دائماً أمام جميع أبنائه مذكّرين إياهم بأقوال السيد المسيح وتعاليم الإنجيل: “لا تدينوا كي لا تدانوا”، “من لطمك على خدك الأيمن در له الأيسر”، “اغفروا يغفر لكم إن لم تغفروا… لا يغفر لكم”، “من سخرك ميلاً اذهب معه اثنين”، ” إذا أخطأ إليك أخوك فوبّخه وإنْ تاب فاغفر له”.
لقد تقدّم بشارة الأسمر بالمعذرة وطلب التوبة وما زالت السيوف تسنّ لذبحه كلّ يوم حتى أنّ أحد ابطال السلطة الكرتونية الحديثة التي أوعزت بقطع رزقه وطرده من الوظيفة قبل صدور أيّ حكم بإدانته، وهذا أيضاً إجراء باطل قانوناً وقابل للإبطال مع التأكيد بأنّ قطع الأرزاق من قطع الأعناق.
وللتاريخ والقانون والأجيال ومستقبل ما تبقى من هذا البلد من قيم كفى تطاولاً على القوانين تارة بحجة الدين والطوائف وتارة بحجج أخرى كالأمن والفساد، وكفى تعدّياً على الحريات وتوقيفات تعسّفية تؤدّي الى وفاة موقوفين في بعض الأحيان وذلك باسم القانون والقضاء، وكفى ظلماً وانتهاكاً للأصول فلم يعد أحد يحتمل الظلم مردّدين بأنه إذا كانت دولة الظلم ساعة فإنّ دولة الحق حتى قيام الساعة.
أقفلوا مزارعكم الطائفية ومحاكم التفتيش المستحدثة قبل أن تواجهوا ثورة شعب لا يرحم بعد أن دمّرتم عمداً ماضيه وحاضره ومستقبله وتعملون على تدمير عقله من خلال الطائفية العمياء التي أصبحت بصورة مصطنعة أكبر من الدولة وأعلى من القانون.