أثار إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب سحب القوات الأميركية من سوريا جدلًا في المؤسستين العسكرية والأمنية الأميركيتين قبل “إسرائيل”، ومع ارتفاع منسوب احتمالات الحرب في المنطقة “إعلامياً” بالحد الأدنى، تجدر العودة إلى التأمل في جملة عوامل مؤثرة في سياقات الأحداث في المستقبل القريب.
أحد هذه العوامل هو بلا شك رغبة الرئيس الأميركي دونالد ترامب “المتردد” في سحب القوات الأميركية من سوريا.
الكاتب الإسرائيلي المقرب من المؤسسة الأمنية “يوسي ميلمين” شكك في ناجعية السياسة الإسرائيلية السابقة بتنفيذ غارات في سوريا، مشيراً إلى أن “القادة الإسرائيليون في الغرف المغلقة للمؤسسة الأمنية والجيش الإسرائيلي بدأوا بالتساؤل حول إمكانية منع إيران من التمركز في سوريا، ومدى نجاح (إسرائيل) في تحقيق ذلك”.
واعتبر ميلمين في مقال في صحيفة “معاريف” أنّه “على الرغم من إصرار رئيس الوزراء بينيامين نتنياهو على منع الوجود الإيراني في سوريا، فإن الحادثة المعقدة ذات المراحل المتعددة التي وقعت في الجولان يوم الأحد الماضي أثارت الشكوك حول مدى نجاح (إسرائيل) في منع التموضع الإيراني في سوريا”.
رأي ميلمين يتطابق مع قراءة رئيس قسم التخطيط الاستراتيجي في الجيش الإسرائيلي سابقاً العميد “مايكل هرتسوغ” الذي خصص معهد “واشنطن لسياسات الشرق الأدنى” بتقرير حول إعلان ترامب الذي أثار جدلًا في المؤسستين العسكرية والأمنية الأميركيتين قبل (إسرائيل).
ينطلق “هرتسوغ” من مسلّمة مفادها أن إعلان ترامب سببّ “استياءً وقلقاً” لدى المسؤولين الإسرائيليين على الرغم من “عدم إنتقادهم” له في العلن.
وفي حين يُدرك المسؤولون الإسرائيليون أن الوجود العسكري الأميركي في سوريا لا يرقى إلى حجم كبير في الأصل، فإن “القصة ليس كاملة” بحسب “هرتسوغ”، إذ أنّ المخاوف الإسرائيلية التي تتركز حول إيران تنظر إلى إعلان ترامب على أنه جزء من “الانسحاب الأميركي من الشرق الأوسط” ككل، نتيجة تراجع اعتماد واشنطن على إمدادات الطاقة من هذه المنطقة وانتقال اهتمامها إلى الشرق الأقصى. وبالتالي، فإن (اسرائيل) تنظر إلى القرار الأميركي من خلال منظور التهديدات الأكبر لأمنها القومي – وتحديداً، طموحات إيران النووية والإقليمية، وجيشها المؤلف من الوكلاء الذين يبنون قدراتهم في الجوار المباشر (لإسرائيل)، ومن خلال هذا المنظور، تكون النتيجة النهائية سلبية”.
وبحسب العميد الإسرائيلي، فإن العقدة الرئيسية في الخطوة الأميركية تكمن في أن “(إسرائيل) حددت خطوطها الحمراء فيما يتعلق بتورط إيران في سوريا، وقامت بإنفاذها من خلال العمليات العسكرية المستمرة – وهي حملة ناجحة نسبياً ولكنها تنطوي على خطر نشوب صراع إسرائيلي -إيراني أوسع نطاقاً. ومن هذا المنطلق، قرأت القدس بشكل صحيح موقف إدارة ترامب على أنه تقسيم للعمل، حيث تمارس الولايات المتحدة ضغوطاً شديدة على إيران، ولكن بشكل أساسي في السياق النووي، وبصورة محدودة على الأدوات الاقتصادية والسياسية. وفي الوقت نفسه، تُرك للقوات الإقليمية دور المواجهة العسكرية لطموحات إيران الإقليمية، وتأتي (إسرائيل) في مقدمة هذه القوات”.
وقد مارست تل أبيب ضغوطاً عبر أعضاء فريق الأمن القومي الأميركي بهدف “دمج الأصول والنشاطات العسكرية الأميركي في سوريا في استراتيجية موحدة” مع (إسرائيل) لمواجهة إيران عسكرياً، لكن ترامب “بدّد هذه الآمال على نحو مفاجئ، فربط قرار الانسحاب بالحرب ضد تنظيم داعش، وبالتالي أكّد أن الوجود الأميركي في سوريا لم يكن جزءاً من استراتيجية أوسع نطاقاً ضد إيران”. ويستنتج العميد الإسرائيلي أن “واشنطن تبدو أنها غير راغبة في تولي دور قيادي استباقي في هذه الحملة الإقليمية” ضد إيران.
ويقرأ “هرتسوغ” في الدلالات العملية للقلق الإسرائيلي من الإنسحاب الأميركي الذي يؤثر على منطقتين رئيسيتين”:
قاعدة التنف، والمنطقة العازلة المحيطة بها في جنوب شرق سوريا التي يبلغ طولها 55 كيلومتراً، وتقع على الطريق الاستراتيجي بين بغداد ودمشق.
المنطقة الكردية شبه المستقلة في شمال شرق سوريا. وقد أعاقت هذه المناطق (وخاصة التنف) فروع الممر الذي تخطط له إيران والذي يصلها بالبحر المتوسط. وبالمثل، يشعر الأردن بالقلق إزاء إخلاء التنف لأن ذلك قد يسمح بنشر وكلاء إيرانيين بالقرب من حدوده – مما يشكّل مصدر قلق كبير بالنسبة (لإسرائيل) التي تعتبر استقرار المملكة أمراً حاسماً”.
وفي ما يخص الدور الروسي في هذا المشهد الشديد التعقيد، يقول “هرتسوغ” أن موسكو “اتصلت بمسؤولين إسرائيليين في أيلول/سبتمبر بشأن فتح حوار مع الولايات المتحدة، وذلك جزئياً للإعراب عن رغبتها في طرد القوات الإيرانية ووكلائها من سوريا. وفي المقابل، كان سيُطلب من واشنطن تجميد العقوبات الاقتصادية المفروضة على إيران أو تخفيفها، وإخراج قواتها من سوريا. غير أنّ المسؤولين الإسرائيليين رفضوا الاقتراح بشكل أساسي لأنهم لا يريدون تشجيع أي تخفيف للعقوبات المفروضة على إيران”.
ويخوض “هرتسوغ” في عوامل القلق الإسرائيلي، فيرى أنه “بالنظر إلى المستقبل، يشعر بعض المسؤولين الإسرائيليين بقلق شديد حيال واقع استمرار واشنطن إظهار عزوفها عن اللجوء إلى القوة العسكرية في المنطقة، واضعة سياساتها القسرية على أساس الضغط الاقتصادي. كما أنهم يتساءلون عمّا ستفعله الإدارة الأميركية إذا جددت إيران برنامجها النووي واقتربت من احتمالات اختراق خطيرة. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، هل تعتبر واشنطن ذلك بمثابة خط أحمر يرغم الولايات المتحدة على اللجوء إلى الخيار العسكري، أم تتوقع من (إسرائيل) أن تتولى معالجة هذه المشكلة؟”.
ويستنتج العميد الإسرائيلي أنه “بعيداً عن المخاوف الإيرانية، فإن إعلان الانسحاب الأميركي قد أقلق المسؤولين الإسرائيليين في السياق الإقليمي الأوسع. فمن خلال تعزيز مفاهيم التراجع الأميركي، تشير هذه الخطوة إلى أنه يجب على الجهات الفاعلة الإقليمية التعامل مع روسيا من أجل حماية مصالحها. بالإضافة إلى ذلك، تمّ اتخاذ القرار بالتنسيق مع تركيا، وهي الدولة التي زادت من حدة خطابها المعادي (لإسرائيل) في الآونة الأخيرة.
ويختم العسكري الإسرائيلي، الذي شغل مناصب عدة في وزارة الدفاع سابقاً، بتوصية بضرورة أن “تتكيف (إسرائيل) مع الوضع الجديد وتستمر في اتخاذ إجراءات ضد ترسيخ الوجود العسكري الإيراني في سوريا، كما فعلت في الأسابيع الثلاثة منذ إعلان ترامب”، داعياً إلى أن تسعى تل أبيب “على وجه خاص بإعادة صياغة التفاهمات مع موسكو بشأن سوريا، والتأثير في كيفية تنفيذ الانسحاب الأميركي (على سبيل المثال، وضع جداول زمنية، وترك الوحدة الأميركية في التنف، واستمرار العمليات الجوية، وما إلى ذلك)، والحصول على ضمانات أمنية أميركية إضافية، تشمل الاعتراف بضم (إسرائيل) لمرتفعات الجولان”.
متابعة آراء الإسرائيليين حول إعلان ترامب الإنسحاب من الولايات المتحدة تتقاطع في تعداد عوامل القلق في تل أبيب من الخطوة المفترضة، لكن الصوت العالي لهذه الآراء والسجالات هو رد فعل طبيعي في سياق صراع دائم لاتزال (إسرائيل) حتى اللحظة ملتزمة فيه سقف “معركة بين الحروب”، في ما يبدو أنه صار يفرض قيوداً عليها مع عدم فعالية هذه النظرية والحاجة إلى رفع السقف.
عبد الله محمد – الميادين