كُتب الكثير عن حدث تأسيس الحزب السوري القومي الإجتماعي الذي شكّلَ بداية تاريخ جديد في حياة الأمة السورية، تاريخ وصفه المؤسس بالتاريخ «الصحيح» و«الحقيقي»، لأنه كان، بالفعل، نقضاً لحكم التاريخ الأجنبي وأطواره القاسية التي جعلت الأمة مشلّعة، لا بل جثة هامدة لا روح فيها ولا حياة، أمة غارقة في مستنقعات الجهل تعاني من الضعف والانحلال وفقدان الثقة والخنوع والتبعية للإرادات الخارجية.. في ذلك الوقت انبثق الفجر من الظلام «وخرجت الحركة من الجمود» معبِّرة عن إرادة أمة حية تريد الحياة الحرة الجميلة، ومُعلِّنة قيام دولتها الجديدة المرتكزة على دعائم الحرية والواجب والنظام والقوة.
الحزب حركة شعبية:
وبهذا التأسيس أراد سعاده ان يكون حزبه «حركة شعبية واسعة النطاق» تلمُّ شمل قوات الشباب الغارقة في أوحال الجهل والفوضى والطائفية، وتصّهر في بوتقتها مختلف العقليات والنفسيات الشخصية لتكّون منها نفسية قومية اجتماعية واحدة، لها قصد واحد وإرادة قومية واحدة في الحياة.. نفسية تواقة الى الخلق والعطاء والإبداع والجمال، وإلى إحياء المناقب الجميلة السامية لتحيا أمة عظيمة «حياة أجود في عالم أجمل وقيم أعلى». أراد سعاده حزبه أن يكون منظمة عقائدية فاعلة وحركة صراع مرتكزة على عقيدة أخلاقية جديدة هي العقيدة القومية الإجتماعية الشاملة للمبادىء الفلسفية المتمحورة حول حياة الأمة وهويتها وقضيتها ومصالحها.. أراده حركة هجومية تهاجم بالفكر وبالأعمال كل الأغراض الأنانية والطائفية والفوضى والإقطاع والرأسمالية الجشعة، وكل الأوضاع الفاسدة في مجتمعنا وتسعى لتحسين حياة الشعب وتأمين مصالحه وتحقيق آماله وأحلامه بحياة حرة وكريمة.
القضية القومية:
هذا الحزب العقائدي الذي تأسس على الأساس القومي، وكوّن قضية حياة الأمة ونهوضها وبناء مستقبلها اللائق، تكويناً مكتملاً في المبادئ المناقبية الجديد،ة وحمل لواء هذه القضية الجامعة لكل أبناء الأمة، والمعبّرة عن حاجاتها وعن مصالحها ومطالبها العليا، ظهرَ للملأ معلناً قيام الأمة السورية من قبرها في التاريخ ومبتدئأ نهضتها القومية الجبارة وبناء دولتها الديمقراطية المستقلة والراقية والقادرة على توفير الخير والتقدم والإزدهار.
حزب المؤسسات القومية:
والعمل الإنشائي العظيم الذي قام به سعاده بعد تأسيس قضية الأمة تمثّلَ بإيجاد المؤسسات القومية الجديدة القادرة على إدارة العمل وضمانه لتحقيق القضية القومية والسير بها باتجاه الغايات السامية. فهذا الحزب الذي عّرفه المؤسس بأنه «فكرة وحركة تتناولان حياة أمة بأسرها» 1 هو حزب مؤسسات دولة الأمة الجديدة الصالحة لتجديد حياتها وخدمة مصلحتها بديلاً عن المؤسسات اللاقومية الطائفية والخصوصية والتقليدية العتيقة القائمة في المجتمع السوري والتي تتضارب في أهدافها ومصالحها ولا تصلح لحاجات الأمة ولتحسين حياتها وفلاحها. وأهمية المؤسسات القومية الجديدة انها مرتبطة بعقيدة الحزب وغايته، ووظيفتها الأساسية هي معالجة قضايا المجتمع والنهوض بأوضاع الشعب وخدمة قضيته القومية.. فالمؤسسات بلا قضية تخدمها لا فائدة منها ولا معنى لوجودها. ولقد أوضح سعاده أن أهم عمل أساسي قام به بعد تأسيس القضية القومية كان «إيجاد المؤسسات الصالحة لحمل مبادىء الحياة الجديدة وحفظ مطاليبها العليا وخططها الأساسية» 2 .
غاية التأسيس:
وفعل التأسيس، مهما حاولنا ان نكتب عنه، فغايته الأساسية الواضحة هي بناء الحياة القومية الجديدة لأمتنا.. هي النهوض بهذه الأمة من واقع تخلّفها وجهلِها وانقساماتها والانتقال بها إلى المكان اللائق بها تحت الشمس لتنعم بالحياة الراقية الجميلة، حياة العز والكرامة والحرية والسيادة والإستقلال، حياة الخير والبحبوحة والرقي والفلاح.
إن تأسيس الحزب القومي بما يعنيه من مبادئ مناقبية جديدة، ومن تنظيم بديع، ومؤسسات متنوعة توثّق مصالح المجتمع وتوحّد جهود المنتجين والعاملين للقضية القومية الإجتماعية، وتقضي على المفاسد في المجتمع، هذا التأسيس لم ولن تكن الغاية منه خدمة أغراض شخصية ومنافع خصوصية بل تحقيق النهوض القومي والإصلاح الحقيقي في المجتمع لترتقي حياتنا القومية وليعود «النبوغ السوري إلى عمله في إصلاح المجتمع الإنساني وترقيته.» 3 لذلك يقول سعاده «إن في المبدأ السوري القومي الإجتماعي إنقاذاً لا يقتصر على سورية بل يتناول وضعية المجتمع الإنساني كله، ونهضتنا لا تعبر عن حاجاتنا نحن فقط بل عن حاجات إنسانية عامة.» 4
فعل التأسيس مستمر:
فعل التأسيس الذي بدأه سعاده ما زال مستمراً مع أبناء العقيدة القومية الإجتماعية الذين يصارعون في كل المواقع والساحات.. يدافعون عن سيادة الأمة وعن حقها في الوجود وفي الحياة الحرة، ويبذلون أنفسهم في سبيل انتصار المبادىء المعبِّرة عن حقيقة الأمة ووجودها ومطامحها العليا في الحياة.
فكرة الأمة:
وفعل التأسيس سيبقى مستمراً لتثبيت فكرة الأمة التي وضعها سعاده في صدر المقاصد الواضحة من غاية الحزب واعتبرها من أولويات العمل القومي لأنه بدون إيضاح هذه الفكرة بمعناها العلمي المستند إلى حقائق العلوم الاجتماعية والإنسانية وغرسها في عقول أبناء الشعب، فسيبقى الوعي القومي غائباً وسيبقى مجموعنا القومي منقسماً على نفسه تتقاذفه العصبيات المذهبية والأحقاد الطائفية والإرادات الأجنبية. يقول سعاده: «بدون تأسيس فكرة الأمة بوضوح لا يمكن القيام بنهضة قومية..» 5 ويضيف: «العمل لإيضاح فكرة الأمة لا يزال قائماً، ولا يزال العراك قائماً في هذا الوطن على تأسيس فكرة الأمة وسيظل العراك قائماً إلى ان يجد المجموع السوري كله نفسه بمفهوم ومدلول واحد، يجمعه في شعور واحد، بنفسيته، بحقيقته، بإرادته ومقاصده العليا في الحياة.» 6
فكرة العطاء:
وفعل التأسيس سيبقى مستمراً يُعبِّدُ طريق الصراع ويزرع في النفوس قيم التضحية والبذل والعطاء. «فالأمة التي لا تعرف التضحية»، يقول العلامة الدكتور خليل سعاده، «لا تعرف الإستقلال ولا تعرف الحرية». 7 لذك فان عقيدة سعاده تغرسُ في النفوس روح العطاء الصادق وتدفعنا لأن «نبذل أنفسنا أفراداً في سبيل تحقيق المبادىء التي في تحقيقها تحقيق لحياة الأمة». 8 ان العطاء الحقيقي هو تضحية وتفاني في سبيل خير المجتمع ورقيه. وسعاده يؤكد ان «كل ما فينا هو من الأمة وكل ما فينا هو للأمة، الدماء التي تجري في عروقنا عينها ليست ملكنا هي وديعة الأمة فينا ومتى طلبتها وجدتها». 9
بهذا التعليم المناقبي وبوقفة العز في الثامن من تموز، علّمنا سعاده القدوة معنى الحياة وعلَّمنا أن نعتمد البطولة المؤمنة وأن نسلك طريقَ الصراعِ لكي ينتصرَ الحق ويهزم الباطل لأنَ الغلبةَ في النهاية هي للمصارعين أبناءِ الحياةِ وليست للمتخاذلينَ الرافضينَ الصراعَ والمعتمدينَ نهجَ الإستسلامِ والتنازلِ عن الأرض والحقوق.
فكرة الثقة:
الحياة القومية الجديدة المثلى التي حصل من أجلها التأسيس لا تقوم إلا على ركيزة متينة ألا وهي الثقة. فكما يقول سعاده: «إن مبدأً أساسياً من مبادىء الحزب السوري القومي المناقبي هو مبدأ الثقة. فعلى أساس الثقة تقوم حركتنا وبالثقة نعمل.» 10 والحق يقال ان الثقة هي من أجمل الأخلاق وأشرفها. فهي شرط أساسي لنجاح الجماعات والمؤسسات ولتقدم الأمم. وهذا الشرط يمنح نظام الهيئة الإجتماعية قوة ومتانة ويقوي وحدة الجماعة وتماسكها ويدفع بالأفراد المؤمنين للعطاء والتضحية في سبيل قضيتهم المشتركة. ومتى أصيبت الثقة بالضعف أو المرض، أدى ذلك إلى تضعضع الجماعة وتفككها. فبغياب الثقة يسيطر الشك وتعم البلبلة ويضعف الإيمان وتغيب التضحية وتتسلط النزعات الفردية عل حساب المصلحة العامة. والتضحية لا تبذل بدون الثقة، ثقة الشعب بنفسه، بقيادته، وبالقضية التي يناضل من أجلها.
لذلك فأن الفلسفة القومية الإجتماعية تعلّمنا ان نثق بأنفسنا وقدراتنا لتحقيق طموحاتنا. «ليست القومية»، يقول سعاده، «إلا ثقة القوم بأنفسهم وإعتماد الأمة على نفسها» 11 .
ولأن الثقة هي حجر الأساس في عملية البناء القومي لا بل لحمة البناء وطينه، فالمطلوب العمل على زرعها في النفوس وتعزيزها وتوفير كل شروطها ومستلزماتها. المطلوب أن نزرع الثقة المرتكزة على النظام الدقيق والصراحة الكلية والجلاء التام..
فتعالوا نعزز الثقة بالوضوح والجلاء والقدوة والعمل المثمر..
تعالوا نعزز الثقة وروح العطاء من خلال التعقدن بالتعاليم القومية الإجتماعية وأخلاقها، التي نجد فيها كل الحق وكل الخير وكل الجمال لأمتنا. فالنهوض الحقيقي لا يكون إلا «الخروج من التفسخ والتضارب والشك إلى الوضوح والجلاء والثقة واليقين والإيمان والعمل بإرادة واضحة وعزيمة صادقة» 12 . هذا هو معنى النهضة لنا كما يحدده سعاده العظيم.
تعالو نعزز الثقة بزرع بذور اليقين والإيمان والوجدان القومي وبتعميق الثقافة القومية الإجتماعية، ثقافة الواجب القومي والوحدة الروحية والإرادة الواحدة، ثقافة العطاء والتضحية والإخلاص، ثقافة الإصلاح والأمل والإنتصار.
بروح العطاء وبالثقة ننهض ونبني وطناً وحياة كريمة تليق بالشرفاء والأحرار… وبالثقة وحدها نحقق النجاح والرقي والنصر الذي لا مفر منه. أما إذا غابت الثقة عن مجموعنا، فلن نحقق إلا الفشل والمآسي…
هوامش
1 – سعاده، المحاضرات العشر، ص 30.
2 – سعاده في أول آذار 1956، ص 47.
3 – سعاده في أول آذار 1956، ص 58.
4 – المرجع ذاته، ص 59.
5 – سعاده، المحاضرات العشر، ص 173.
6 – سعاده، المحاضرات العشر، ص 173.
7 – الدكتور خليل سعاده، الرابطة، ص 132.
8 – سعاده، المحاضرات العشر، ص 38.
9 – سعاده في أول آذار، ص 98.
10 – سعاده، الرسائل الجزء الأول، ص 109.
11 – سعاده، المحاضرات العشر، ص 33.
12 – سعاده، المحاضرات العشر، ص 16.