قليلٌ من أبناء مجتمعنا اليوم قد يكون سمع بهذه الأغنية للرّاحل زكي ناصيف، والأقلّ منهم بكثير مَن يعرفون قصّتها… فمَن ينصت إليها للمرّة الأولى يظّنها لحناً كلاسّيّاً يشكو فراق الحبيب، ويُظهر الأسى في ظلّ غيابه؛ لكنّه قد لا يشكّ في أنّها مناجاة لأنطون سعاده، صاحب العرزال الشّويريّ الذي ابتناه واختاره ملجأً لتأمّلاته وراحته النّفسيّة ومنطلقاً لأفكاره، ورمزاً لفكره…
أجل؛ كان ناصيف يخاطب العرزال في أولى زيارته له بعد استشهاد سعاده، ليشير إلى عدم نسيان معالم المكان له. فكانت الأغنية مبنيّة على مجموعة من الأساليب التي تُبرز هذه الحال، وتبيّن أنّ ذاك الغياب لم يكن عنصر حزنٍ فحسب، بل كان إشارةً إلى استمرار حضوره في المكان، كما إلى استمرار حضوره في الأذهان. ولعلّ هذا ما جعل منها واحدة من أكثر الأغنيات عمقاً، لما تشتمل عليه من أبعادٍ إيحائيّةٍ ورمزيّةٍ، حتّى على المستوى النّغميّ… وهو ما يحتاج إلى دراسة مستقلّة خارج نطاق هذه السّطور.
هذا ما يُظهر عمق الأثر الذي أحدثه استشهاد أنطون سعاده، في صاحب الأغنية؛ ولكنّه ليس المظهر الوحيد لهذا الأثر. فكثير منّا على معرفةٍ بالقصّة التي كتبها الأديب سعيد تقيّ الدّين من وحي مشاهدات الكاهن إيليّا برباري الذي كُلّف بتعريف سعاده قبيل استشهاده، وهي القصّة التي حملت عنوان “حدّثني الكاهن الذي عرّفه”، والتي تحوّلت إلى فيلمٍ قصير لاحقاً… والتّأثير هنا بادٍ في اتّجاهين: الكاتب نفسه بطبيعة الحال، والكاهن الذي شكّل الرّاوي الإشكاليّ للقصّة…
ولا شكّ في أنّ هذا العمل الإبداعيّ، بما يحمله من مخزونٍ وجدانيّ وفكريّ على السّواء، قد تحوّل إلى تحفةٍ فنّيّة من ناحية التّقنيات الفعّالة التي وظّفها الكاتب، والعناصر الرّمزيّة الموحية، والأساليب التي كانت شديدة الوقع في ذهن القارئ… وهذا ما عكَس، مرّةً أخرى، ذاك الأثر الذي لم يضحِّ بالمستوى الفنّيّ لصالح الأيديولوجيا؛ وما يتطلّب بحثاً من نوعٍ آخر كذلك…
أورد هذين الأنموذجين من دون أن أنسى ما يطالعنا في نتاجات الشّعراء التّمّوزيّين من استحضار للّحظة السّعاديّة تلك، وأقول عن عمد، “اللّحظة السّعاديّة” لأنّ سعاده انتصر فيها على جلاّده بكلّ المعايير النّضاليّة والرّوحيّة والفكريّة والإنسانيّة… ولعلّ هذا ما نقع عليه في قصائد: “الجسر” و”حبّ وجلجلة” لخليل حاوي، “قالت الأرض” و”البعث والرّماد” لأدونيس، “البئر المهجورة” ليوسف الخال، “المسيح بعد الصّلب” لبدر شاكر السّيّاب، والكثير من قصائد كمال خير بك ونذير العظمة وفايز خضّور…
أجل! لم يكن لينسى كلّ أولئك اللّحظة السّعاديّة، وهم أبناء نهضته انتماءً تنظيميّاً أو فكريّاً؛ وبعضهم قد تأثّر على نحوٍ آخر، فما كان من محمّد الماغوط إلا الغرق بعبثيّته، وما كان من فؤاد رفقة إلا الغرق في فلسفيّته؛ وهو ما اعترف به هذا الأخير إلى صاحب هذه السّطور.
أبعد من ذلك، فإنّنا قد نرى تأثيرات تلك اللّحظة في مشاهد أخرى وفي فنون أخرى، لا يشكّل فيها مشهد مواجهة شخصيّة “مدلج” لـ”فاتك” المتسلّط في مسرحيّة “جبال الصّوّان” للأخوين رحباني إلا أنموذجاً من نماذج أخرى كثيرة…
وبناءً عليه، فإنّه بالتّأكيد “ما نسي العرزال طلّات القمر بين الغيوم”، وبالتّأكيد “هالرّوح ما نسينا”، ولا يمكن دمعت عيناه عند قراءة الأعمال الأدبيّة والفنّيّة التي ذكرنا، أن ينسى الثّامن من تمّوز لأنّ روحه “دني وآمال تحيينا”…
وبعد، فإنّ غايتي من كل هذا العرض ليس إظهار الأثر الذي أحدثه استشهاد أنطون سعاده في الوسط الثّقافيّ فحسب، فهو أمر يمكن الاطّلاع عليه، كما اكتشافه بشكلٍ يسير. ولا غايتي إعادة القول في بعض الجوانب التي نكرّرها طقسيّاً في مناسبات ثابتةٍ، خصوصاً أنّني توخّيت الخروج في المقال من عباءة الأكاديميّ الصّارمة المعايير. بل للنّظر في أنّ هذه اللّحظة التي هزّت الأمّة وما أبعد منها وجدانيّاً، قد لا تعود اليوم متمتّعةً بالوهج الذي كانت عليه، حتى في الوسط الثّقافيّ القوميّ الاجتماعيّ، إذا ما استمرّ التّدهور الثّقافيّ والإيمانيّ بهذا الانحدار الذي نشهده اليوم.
ذكرى 8 تمّوز، فرصة مفتوحة لاستعادة “اللّحظة السّعاديّة” التي ألهمت بعضاً من أهمّ الأعمال الإبداعيّة في وطننا، كما ألهمت وقفات العزّ التي وقفتها النّهضة على مرّ السّنوات التي تبعت الاستشهاد، وصولاً إلى اليوم… فهل ما زالت قادرةً على تحفيز الإبداع في جيلنا وما بعده، واستعادة المناقبيّة القوميّة في حياتنا؟ وهل ما زلنا قادرين على إظهار الوفاء لتلك اللّحظة، كما فعل عرزاله بعيني زكي ناصيف؟
أنطون سعاده استشهد في مثل هذا اليوم، لكي يحيا أبناء عقيدته ولينتصروا على التّنّين برؤوسه المتعدّدة في سبيل بعث مجد الأمّة، فلا تقتلوه الآن بانتحاركم فكريّاً، وثقافيّاً، ومناقبيّاً…!