“أنا لا يهمّني كيف أموت، بل من أجل ماذا أموت، لا أعدّ السنين التي عشتها، بل الأفعال التي نفّذتها. هذه الليلة سيعدمونني، أمّا أبناء عقيدتي فسينتصرون، وسيجيء انتصارهم انتقاماً لموتي. كلّنا نموت، ولكن قليلين منّا مَن يظفرون بشرف الموت من أجل عقيدة. يا خجل هذه الليلة من التاريخ من أحفادنا من مغتربينا ومن الأجانب، يبدو أنّ الاستقلال الذي سقيناه بدمائنا يوم غرسناه، يستسقي عروقنا من جديد”.
كلمات سجّلها أنطون سعاده للتاريخ قبل دقائق قليلة من استشهاده رمياً بالرصاص الذي أطلقته يد نظام طائفي مذهبي كياني مرتهن عجز عن استيعاب الفكر الذي حمله سعاده، رفض خشبة الخلاص التي استحضرها، ولم يتحمّل العلاج الشافي لأمراض المجتمع الذي ابتدعه.
لم يعط الجلادُ سعاده الوقت الكافي ليقوم بمداخلة يشرح فيها للجلاد الخطأ الكبير، لا بل الخطيئة الكبرى التي تقترفها يداه بحق مفكّر، وفيلسوف، وعالم اجتماع يحتاجه الوطن مخلّصاً ومنقذاً له من عصور من الجهل وعقود من الاستسلام، وسنين من الاحتلال.
كان الجلّاد مستعجلاً لتنفيذ المهمة المطلوبة في أسرع وقت ممكن، فهذه الأرض لم تكن تتسع للعالم والجاهل معاً، ولا للمحب والحقود معاً، ولا للمقاوم والمستسلم معاً. لذلك فإن سعاده كان في سباق مع الوقت وكان لا بدّ أن يختصر ما يريد قوله بكلمات قليلة قبل أن يختم رسالته بدمه.
فأنطون سعاده كانت له نظرته الخاصّة والمميّزة للموت. الموت الذي لطالما أرعب الملوك والسلاطين وأصحاب النفوذ، الموت الذي بحث الكثيرون عن إكسير يهزمه، الموت الذي عجز الكثيرون عن تخطّيه، الموت الذي هزم ملايين ملايين البشر منذ فجر التاريخ. هذا الموت لم يكن مخيفاً لأنطون سعاده الذي ابتسم حين رأى التابوت الذي سيسجّى فيه بعد قتله جسداً. هذا الموت الذي قد يكون مرعباً، ولكنه حتماً ليس مرعباً لمن لا يعتبر الموت نهاية ومَن هو على يقين بأن الموت قد يكون هو نفسه الطريق إلى الحياة. قد تتعدّد أسباب الموت، ولكن الموت يبقى واحداً الا إذا كان هذا الموت هو من أجل ما يؤمن به الإنسان، من أجل عقيدة عظيمة يعتبرها طريقاً لخلاص أبناء شعبه وأمّته، عقيدة صاغها عقل راجح وحدّد أهدافها بدقّة، وأحد أهم هذه الأهداف إعادة الحياة الى أمّة “ظنّ الكثيرون أنها ماتت وقبرت في قبر التاريخ”، وثبات سيادة أمّة “لا ترضى القبر مكاناً لها تحت الشمس”.
استشهد سعاده عن عمر خمسة وأربعين عاماً لا يمكن أن تُقاس بطولها الزمني. فأنطون سعاده استغلّ كل دقيقة منها لتحقيق غاية أساسيّة وضعها نصب عينيه. شخّص الداء الذي أصاب جسد الأمّة فأضعفها وأنهكها وحدّد الدواء القادر على إعادتها الى الحياة.
فالأمّة المقسمّة إلى أفراد وجماعات وطوائف ومذاهب هي حتماً أمّة ضعيفة هزيلة غير قادرة على مواجهة التحديات، والأطماع الخارجية التي هدفت الى الاستيلاء على مقدرات وثروات هذه الأمّة. وحدّد بأن أي “صعوبات خارجية تهون متى تغلّبنا على الصعوبات الداخليّة”. فبدأ بالعمل لبناء إنسان جديد يكون أساساً في بناء مجتمع جديد. هذا الإنسان الجديد صاحب فكر اجتماعي يتخطى كل حالات الانقسام والتبعيّة. فمصلحة المجتمع هي العامل الوحيد الموجّه لكلّ فعل وكلّ عمل وكلّ انفعال لهذا الإنسان الجديد بعد أن يكون قد تخطّى، وبشكل حاسم، “الأنا” القاتلة ذات القدرة على تدمير المجتمع وتفتيته الى وحدات صغيرة جداً.
والأمّة القويّة هي الأمّة التي تمتلك عنصرين أساسين من عناصر القوّة. القوّة الروحيّة التي تشكّل مع القوّة الماديّة قوّة “مدرحيّة” هي السلاح الأمضى في أيّة مواجهة قد تخوضها الأمّة دفاعاً عن كرامتها وحقوقها ومصالحها وثرواتها. غرس سعاده في الإنسان الجديد روح الصراع والنضال والمقاومة، ميّز شخصيّته بقيم الحق والخير والجمال، ودعّمها بمبادئ جليّة واضحة، مبادئ دعائمها الحريّة والواجب والنظام والقوّة، وجمّلها بالمناقب والأخلاق، وعزّزها بروح التضحية والفداء والاستشهاد. وشدّد سعاده على أن يكون الإنسان الجديد عالماً، مدركاً، حكيماً، العقل له هو الشرع الأعلى الذي به يدرك ويقرّر ويقيّم ويبدع ويخترع.
بالإضافة الى القوّة الروحيّة التي غرس سعاده في الإنسان الجديد، ركّز على قوّة ماديّة لا بدّ أن تتكامل معها لتشكل عناصر المجتمع الذي لا يهزم. فالبيئة السورية الغنيّة بثرواتها تؤمّن الكثير من عناصر القوّة الماديّة، وتعزّز الاقتصاد القومي اذا ما أحسن إدارته عقلٌ راجحٌ وفكرٌ عبقريٌّ وعمل على حمايته بجيش قوميّ جبار مؤمن بالانتصار.
هذا الإنسان الجديد بفكره ومدرحيّته القويّة أرعب أعداء الأمّة الذين شعروا بأنّ هذه القوّة النظاميّة ستضع حداً لمخططاتهم العدوانيّة التوسعيّة الاحتلاليّة، وشعروا بأن أنطون سعاده قد نجح في خلق حالة جديدة في الأمّة السوريّة. فبعد سنين طويلة من التخبّط والتفسخ والتضارب والضياع والشك، أعاد أنطون سعاده الى الأمّة السوريّة حالة من الوضوح والجلاء والوعي والثقة ووحدة الاتجاه والعمل بإرادة راسخة وعزيمة صادقة، حالة من القوّة القادرة على أن تغيّر مجرى التاريخ. وكانت النتيجة أن تداعى أعداء الأمّة السورية من أجل أن يضعوا حداً لهذا الخطر الذي يتهدد مصالحهم ومخططاتهم فكان الثامن من تمّوز، يوم خجل التاريخ مما اقترفته الأيادي المجرمة، يوم سجّل التاريخ اغتيال رجل حمل هموم شعبه وسعى الى تحقيق الحياة الكريمة الحرّة العادلة له، يوم خرج البعض من هذا الشعب متآمراً وأطلق رصاص الحقد على من سعى جاهداً لخيرهم.
ارتقى أنطون سعاده شهيداً فجر الثامن من تمّوز وظنّ القتلة مخطئين أنهم بقتل الجسد قد يقتلون الفكر والنهج والمبادئ والروح. ظنّوا بأنهم قادرون على قتل أنطون سعاده، لم يعرفوا بأن سعاده راسخ فكراً ونهجاً ومبادئ في كل مؤمن بالعقيدة القومية الاجتماعية وبكل واحد من أبناء الحياة، وبأن الانتقام لأنطون سعاده من خلال انتصار المبادئ القوميّة الاجتماعيّة هو مسألة وقت ذلك، لأن الوقت هو شرط أساسي لكل عمل خطير.