تصريحات المسؤولين الأتراك عن اقامة “منطقة آمنة” في سورية، لا تأخذ بعين الاعتبار الواقع الذي استجد خلال السنتين الماضيتين، حيث حقق الجيش السوري انجازات كبيرة في معركته ضد الارهاب، باسطاً سيطرته على معظم المناطق السورية، وهو على أتم الجهوزية لاستكمال الحسم الميداني ليشمل كل المناطق السورية.
إنّ تصريحات رجب طيب اردوغان والمسؤولين الأتراك لا تعدو كونها محاولة لتحويل الاحتلال التركي في سورية الى اقامة دائمة تحت عنوان “المنطقة الآمنة”، غير أن هذا الأمر متعذر الحصول، لأنه يتعارض مع مبدأ وحدة الاراضي السورية الذي ينص عليه قرر صادر عن مجلس الأمن الدولي، وتؤكد عليه لقاءات استانة وسوتشي التي تشارك فيهما تركيا.
وعلى الرغم من أنّ تركيا تلعب على الحبلين، الروسي والأميركي، فإن هذا اللعب لن يمنحها فرصة تحقيق ما تطمح اليه. فعلى ضفة علاقتها مع روسيا وايران عليها الالتزام بمسارات سوتشي واستانة، أما على ضفة علاقتها مع الولايات المتحدة الأميركية، فعليها مراعاة القوى الكردية التي وضعت كل رهاناتها في السلة الأميركية، إذ أن الادارة الأميركية وبعد قرارها بسحب قواتها من سورية، تحاول تلميع صورتها من خلال القول أنها لم تتخلّ عن أدواتها في سورية!
تركيا الأردوغانية، وبخلاف كل المواقف التي تظهر بأنها لا تزال تملك أوراقاً في سورية، تشهد ارتباكاً وتخبطاً في سياساتها، لكنها من خلال اللعب على الحبلين، تبدو اقرب إلى الأميركي، وربما حصلت على كلمة السر الأميركية ومفادها أن واشنطن ستلجأ إلى مخططات بديلة لمواصلة الحرب الارهابية على سورية.
لذا، يبدو أن تركيا تنتظر الفرص لانتهازها بغة تحقيق الحد الأدنى من الأهداف التي اعلنت عنها طيلة السنوات السبع الماضية، غير أن ذلك صعب المنال.
لكن، من الآن وحتى تتكشف مخططات الولايات المتحدة البديلة، تحاول أنقرة أن تحافظ على مسافة واحدة بينها وبين كل من مع موسكو وواشنطن، غير أن اللقاء الأخير بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره التركي رجب طيب أردوغان، وما دار في هذا اللقاء من نقاش حول الانسحاب الأميركي وحول مصير اتفاق ادلب والمجموعات الارهابية هناك، وما صدر عن الكرملين من موقف حول عدم التزام تركيا بشأن ادلب، يفرض على القيادة التركية تقديم اجوبة عن سبب عدم ايفائها بالالتزامات، وتصريح اردوغان حول اتفاق اضنة بين دمشق وانقرة، يؤشر الى أن فترة التلاعب التركي وعدم الايفاء بالالتزامات بدأت تضيق، وقد يكون أمام تركيا خيار وحيد، هو اجراء مقايضة بين مناطق المجموعات الارهابية وتلك التي تتبع لتركيا في ادلب، وبين مناطق سيطرة المجموعات الكردية، والتسليم ببسط سيطرة الدولة السورية على كل هذه المناطق. وما عدا ذلك فان تركيا خاسرة من كل المسارات والسياقات.
وفي هذا السياق كتب تيمور أخميتوف، في “إزفستيا”، الروسية متحدثاً عن الأسباب التي تجعل أنقرة بحاجة ملحة إلى الحوار مع موسكو، وقال: “من خلال الحوار مع الولايات المتحدة، تبحث تركيا عن توازن في سياستها السورية، التي بدأت تجنح باتجاه روسيا. جدول أعمال زيارة أردوغان إلى موسكو يتمحور حول قدرة روسيا على إبقاء تعاونها معها في التسوية السورية في إطار التعاون الجماعي”.
يضيف: خلال الشهر الماضي، أظهرت روسيا عزمها على الالتزام بنقل جميع الأراضي المحررة إلى سلطة الحكومة السورية، وحل المشاكل الأمنية من خلال الحوار بين دمشق وأنقرة. ومن شأن الأخبار عن تسيير الشرطة العسكرية الروسية دوريات في منبج وزيارة الأكراد السوريين إلى موسكو أن ترسل إشارة قوية إلى الجانب التركي: لا تزال ثقة روسيا في تركيا قائمة، ولكن من الآن فصاعداً يجب تنفيذ جميع إجراءات الدول الضامنة التي تم الاتفاق عليها مع اهتمام خاص باحترام سيادة سوريا وأولويات مصالح الحكومة المركزية”.
وتابع آخميتوف في مقاله: “حقيقة أن القيادة التركية تنشط في تنسيق المواقف مع الجانب الروسي، حتى بشأن وضع أراضي شمال سوريا، التي ظلت حتى وقت قريب موضوعا للحوار بين أنقرة وواشنطن، تتحدث عن تطور آلية أستانا لحل الصراع السوري. وفيما لو تمكن الجانب التركي من تقديم ضمانات ملموسة بأن لا تتحول المنطقة العازلة المقترحة إلى محمية أميركية تركية مع مرور الوقت”.
وفي السياق ذاته، كتب يفغيني ساتانوفسكي، في “كوريير” للصناعات العسكرية، متحدثاً عن حسابات تركيا الخائبة في سوريا، على خلفية اللعبة الأميركية، وقال في مقاله: “ستحتفظ الولايات المتحدة بدعم التشكيلات الكردية دون النظر إلى موقف أنقرة، بحيث تحتفظ بالسيطرة على المناطق الرئيسية فيما وراء الفرات والحدود العراقية السورية”.
وأضاف: “على الولايات المتحدة استبعاد خطر انهيار قوات سوريا الديمقراطية، الذي من شأنه أن يجعل استراتيجيتها بالكامل في سوريا تنهار بعد سحب قواتها منها. قوات سوريا الديمقراطية، ضرورية لهم للسيطرة على المناطق المرشحة لعودة داعش إلى ما وراء الفرات، ولتغطية الحدود السورية العراقية. لذا، فالولايات المتحدة تريد التزامات من أنقرة فيما يتعلق بحدود الوجود التركي في شمال سوريا، رافضة أي محاولات لتوسيعه أو دخول المناطق الكردية”.
وتابع: “الأتراك، ليسوا مستعدين لتقديم ضمانات أمنية لحلفاء الولايات المتحدة الأكراد، وأي عدوان ضدهم يجعل من المستحيل تطبيق التكتيكات الأميركية الحالية في سوريا، ويؤثر سلباً على تنفيذها في العراق. يتعين على أردوغان أن يحضر إلى موسكو الخطة المتفق عليها مع واشنطن لإنشاء المنطقة الآمنة ويحاول إقناع روسيا بتقسيم مناطق المسؤولية في شمال سوريا. لكن من الواضح أن أنقرة لا تريد ولا تستطيع شن حرب كبيرة. وهي تسعى إلى الاتفاق مع واشنطن وموسكو على النقل السلمي للمناطق التي تهمها وتقاسم مناطق النفوذ”.
ولفت ساتانوفسكي في مقاله: من المنطقي تكليف الشرطة العسكرية الروسية والقوات الحكومية السورية بالانتشار على الحدود بين سوريا وتركيا، الأمر الذي سيكون ضمانة ضد هجمات الأكراد. تم اختبار هذه الآلية خلال تصفية “منطقة التصعيد الجنوبية” في العام 2018، ويجري تنفيذها الآن في منبج. هذا المخطط، سوف يُرضي الأكراد السوريين ودمشق والولايات المتحدة”.
ويختم: “في النهاية، يتبين أن روسيا هي الضامن الوحيد لمصالح أطراف الصراع الرئيسية في سوريا. وهذا يعني التقليل من الوجود التركي في سوريا إلى أدنى حد، لكن هذا هو موقف موسكو ودمشق وطهران، وسيتعين على أنقرة أن تأخذ ذلك في مشاوراتها مع واشنطن. حتى الآن، مواقفها التفاوضية ضعيفة”.
واضح أن المحاولات التركية لتحقيق نفوذ في بعض المناطق السورية، ليس بالأمر السهل، وسياسات تركيا بهذا الخصوص باتت مكشوفة، وضمناً محاولات أنقرة استغلال علاقاتها بموسكو لتنفيذ مخططاتها في سوريا، وهذا ما أشارت اليه صوفيا ساتشيفكو، في “سفوبودنايا بريسا”، حيث قالت: “عُقد في موسكو اجتماع دوري بين رئيسي روسيا وتركيا، ناقش خلاله فلاديمير بوتين ورجب طيب أردوغان تسوية النزاع السوري، وانسحاب القوات الأميركية من سوريا، وكذلك التعاون بين البلدين”.
وفي هذا الصدد نقلت ساتشيفكو عن مدير مركز الدراسات الشرقية فلاديمير أفاتاكوف قوله: “تحاول تركيا بكل الطرق تبني مواقف الأميركيين، وإظهار أنها لاعب مستقل، من خلال محاولتها تحقيق التوازن بين روسيا والولايات المتحدة، وفي الوقت نفسه التوازن على المستوى الإقليمي”.
وتضيف ساتشيفكو في مقالها نقلاً عن أفاتاكوف: “من وجهة نظر مصالح روسيا، لا شك في أن المفتاح هو تعزيز السلام والاستقرار الإقليميين. هذا مؤشر على النجاح العسكري والدبلوماسي الروسي. لذلك، فمن المهم بالنسبة لروسيا أن تواصل المفاوضات حول التسوية السلمية، والتي يمكن أن تشارك فيها روسيا وتركيا وإيران وغيرها من اللاعبين الإقليميين الرئيسيين. ولهذا السبب، تم التركيز على انعقاد قمة روسية تركية إيرانية قريباً”.
وتقول الكاتبة: بالنسبة لتركيا، فإن تطور الصراعات في البحر الأسود أمر غير مرغوب فيه إلى حد كبير، لأنها في حالة تفاقم الوضع، سيكون عليها الاختيار بين روسيا والولايات المتحدة، وهو ما لا تريده أنقرة. إنها تريد، انطلاقا من مصالحها الخاصة، تعزيز التعاون في المجالات التي تثير اهتمامها مع كل من روسيا والولايات المتحدة”.
وتشير: “مسألة القرم بالنسبة لروسيا مغلقة، لكن بالنسبة لتركيا الأمر ليس كذلك… فدعم تركيا لتتار القرم مهم من الناحية التاريخية، وبالتالي فإن تصريحات أنقرة بشأن شبه جزيرة القرم كانت ولا تزال قاسية، ما يجعل تجاوز هذه المشكلة أمرا صعبا.
ما تقدم، يظهر أن كلام اردوغان في الاجتماع التأسيسي لشبكة تعاون جمعيات الهلال الأحمر والصليب الأحمر في دول منظمة التعاون الإسلامي الذي انعقد في اسطنبول أمس (28/1/2019) عن المنطقة الآمنة، لن يصل الى الخواتيم التي يرسمها اردوغان، فعودة النازحين السوريين الى مناطقهم تتم وفق الترتيبات السورية حصراً، وعلى تركيا أن تقتنع من دون مكابرة بأنها جزء من نادي المهزومين في سورية، وعليها أن تفي بالالتزامات بشأن ادلب، وتتوقف عن دعم الارهاب، وأن اللعب على الحبلين لن يشكل لها طوق نجاة.