لا تزال تداعيات الإنسحاب الأميركي من سوريا تلقي بظلالها على المشهد في المنطقة لا سيما على حلفاء واشنطن الذين باتوا يستشعرون حجم الهزيمة، وهو ما دفع بواشنطن الى إتخاذ سلسلة من الإجراءات بهدف التخفيف من وطأة قرارها على حلفاءها.
في هذا السياق برزت الزيارة التي قام بها مسؤول القيادة المركزية الأميركية، الجنرال جوزيف فوتيل الى الأردن ولقائه الملك عبد الله الثاني ورئيس هيئة الأركان المشتركة الأردنية الفريق الركن محمود فريحات، كذلك زيارته الى المنطقة العسكرية الشمالية المواجهة للحدود الأردنية ـــ السورية، حيث ليس بعيداً من تلك المنطقة، ثمة تمركز للقوات الأميركية في «قاعدة موفق السلطي الجوية» في مدينة الأزرق.
وبحسب المعلومات تأتي زيارة فوتيل الى “موفق السلطي” في ظل ما يحكى عن التحضير لدور أردني جديد في المرحلة التي تلي الانسحاب الأميركي من سوريا، وتنبع أهمية «موفق السلطي»، أو «قاعدة الأزرق»، من قربها من سوريا والعراق، حيث وافق الكونغرس في نهاية 2017،على تخصيص 143 مليون دولار لرفع مستوى هذه القاعدة، ضمن رؤية لتوسيع استخدامها للطائرات المقاتلة والطائرات دون طيار، عبر توفير التسهيلات الكافية للعمليات المستجدة، وتطوير المرافق والبنية التحتية الداعمة للمسؤوليات المستحدثة فيها.
وبعد هذه الموافقة بأشهر، بالتحديد في آب/ أغسطس 2018، نشر الموقع الإلكتروني للحكومة الفيدرالية، الذي ينشر جميع فرص الشراء الفيدرالية ويستقدم العروض على نحو مركزي، عطاءً لمصلحة قسم سلاح الهندسة في الجيش الأميركي لمنطقة آسيا الوسطى والشرق الأوسط. وذكر الموقع أن هذا العطاء إنما هو لمكان غير معلوم في الأردن، لكنه يبعد 100 كلم عن العاصمة الأردنية، فيما تظهر صور الأقمار الاصطناعية المرفقة بمخططات المشروع تشابهاً مع موقع «موفق السلطي» التي تبعد المسافة نفسها تقريباً عن عمان، فضلاً عن أن الأوراق المرفقة تذكر في تفاصيلها هذه القاعدة بالاسم، كمرجعية أمنية ونقطة أساسية لتنفيذ المشروع.
لذلك، يرى مراقبون أن من بين السيناريوات المفترضة ما بعد الانسحاب الأميركي من سوريا، إعادة الانتشار في مناطق الحلفاء غير القادرين على دفع أموال لواشنطن، لكن في استطاعتهم تسخير أراضيهم وجيوشهم لمصلحتها.
في هذا الوقت تجد عمّان نفسها معنية بترتيب أوراقها في ثلاثة ملفات متصلة بالشأن السوري: أمن الحدود، مخيم الركبان، قاعدة التنف. لكن المفتاح في هذا الثالوث بيد الجانب الأميركي، الذي سيؤثر انسحابه من «التنف» بوضع المقاتلين المتغلغلين بين المدنيين في «الركبان»، ما يعني أردنياً زعزعة لأمن الحدود، خاصة أن هناك تجربة سيئة مع هذا المخيم، بل يوجد تمنّع عن التعاطي معه، على رغم الضغوط الأممية لإيصال مساعدات إنسانية إليه، إذ ترى عمّان أنّ مشكلة «الركبان» سورية خالصة، وأن حلها يحتاج إلى الانفتاح على الروس، لكن واشنطن ترفض حلول موسكو، وهو ما يعني تعقيد الأمور أكثر.
وفي وقت لم تحسم واشنطن أمرها في موضوع «التنف»، جاءت تصريحات وزير الخارجية الأردني، أيمن الصفدي، قاطعة في رفض أي دور لبلاده في هذا الملف، سواء كان إشرافاً أو سيطرة، على اعتبار «التنف» كما «الركبان» في الحدود السورية، ولذلك فإن «الأردن سيحمي حدوده، لكنه لن يعبر إلى داخل الأراضي السورية». وأضاف الصفدي: «نأمل أن تُعقد محادثات ثلاثية للاتفاق على ترتيبات تضمن الأمن في الجانب الآخر من الحدود»، علماً أن الوزير كان واضحاً، خلال لقائه نظيره الأميركي مايك بومبيو في وقت سابق من هذا الشهر، في حصر المحادثات بالأردن وروسيا والولايات المتحدة، مستثنياً سوريا.
وفي سياق العمل الجاري أميركياً لطمأنة عمّان، بدا لافتاً أن الإغلاق الحكومي الجزئي الأخير في الولايات المتحدة استثنى المساعدات السنوية المستحقة للأردن (المقدّرة بـ1.3 مليار دولار وفقاً لاتفاقية التفاهم الخمسية التي وقعها الجانبان في شباط/ فبراير 2018)، علماً أن الكونغرس زاد عام 2018 من المساعدات المتعهّد بها للمملكة إلى 1.525 مليار. يضاف إلى ذلك أن هناك تشريعات أميركية حديثة أُقرّت منذ شباط/ فبراير، منها «قانون تمديد التعاون الدفاعي الأميركي ــــ الأردني» الذي من شأنه تعديل القانون الموقّع عام 2015، وذلك لتوسيع نطاقه، بما يتيح إدراج الأردن ضمن الدول المؤهلة لمبيعات دفاعية معينة حتى 31 كانون الأول/ ديسمبر 2022. وأطلق مجلس الشيوخ، أمس، مسار إقرار تشريع جديد لا يتعلّق بتمديد قانون الدفاع بين الولايات المتحدة والمملكة فقط، بل يشمل اتفاقات تسمح بنقل بعض المواد الدفاعية إلى الأخيرة «على أساس مستعجل».
هاجس إعادة “الجهاديين”
وفي سياق متصل بخطوة الإنسحاب الأميركي من سوريا ومع إعلان
عاد الى الأضواء ملف “عودة الجهاديين” بعد إعلان وزارة الدفاع الأميركية عن موعد إنهاء آخر جيوب «داعش» على ضفاف نهر الفرات الشمالية خلال أسبوعين، برز السؤال عن مصير عناصر التنظيم وعائلاتهم، وكذلك عن الخطط الأميركية المفترضة لسحب القوات العسكرية من سوريا.
ستة كيلومترات فقط هي المنطقة التي لا تزال تحت سيطرة «داعش» بحسب «قوات سوريا الديموقراطية»، في ظلّ غياب أرقام دقيقة عن أعداد المدنيين والمقاتلين في داخلها، وبعد معارك عنيفة شهدتها الجبهة هناك، وتخلّلها قصف جوي ومدفعي مكثّف من قِبَل «التحالف الدولي»، توقفت العمليات العسكرية ليخرج آلاف المدنيين والمقاتلين المستسلمين من تحت الركام، إلى مخيمات ومراكز احتجاز تديرها «قسد». انهيار خطوط «داعش» هناك، يسّرته معلومات توافرت بعد القبض على مسؤول أمني بارز ضمن التنظيم، في بلدة الطيّانة، بحسب معلومات ميدانية.
وخلال «الهدنة» الأخيرة، نُقل أعضاء التنظيم الذين استسلموا إلى قواعد أميركية بين ريف دير الزور والحسكة، من دون توافر تفاصيل عن مصيرهم، ووسط الإعلان الأميركي لموعد جديد لـ«إنهاء الخلافة»، تشغل عدة أسئلة متابعي العمليات في وادي الفرات، وأهمها مصير زعيم «داعش» أبو بكر البغدادي، الذي انتشرت أنباء عن وجوده خارج الجيب المحاصر، في مناطق بين ريفي دير الزور والحسكة.
وفي ضوء هذا المشهد المعقّد في أقصى الشرق السوري، كان لافتاً أمس ما نقلته وسائل إعلام فرنسية عن استعداد باريس لاستقبال دفعة من مقاتلي التنظيم مِمَّن يحملون الجنسية الفرنسية. إذ أفاد تلفزيون «BFM» الفرنسي بأن السلطات تنظّم عودة جماعية لنحو 130 رجلاً وامرأة ممن يشتبه في قتالهم إلى جانب «داعش» أو اتصالهم به، خلال الأسابيع القليلة المقبلة.
ولا ينفصل هذا التطور عن سياق الانسحاب الأميركي المرتقب من شرقيّ الفرات، وفق ما أكده وزير الداخلية الفرنسي كريستوف كاستانير، الذي أشار الى أنّ العائدين سيُحالون على القضاء مباشرة. وبينما أوردت وكالة «فرانس برس» الرقم نفسه على لسان مصدر أمني، لم تنفِ وزارة الخارجية الفرنسية هذا التوجه، إلا أنها لم تتبنّ العدد المتوقع للعائدين.
وأشارت الوزارة في بيان إلى أنه «نظراً إلى تطوّر الوضع العسكري في شمال شرق سوريا وإلى القرارات الأميركية، وبغية ضمان أمن الفرنسيين، سندرس جميع الخيارات المتاحة لتجنّب فرار هؤلاء الأشخاص الخطيرين»، مضيفة أنه «إذا قررت القوات التي تحتجز المقاتلين الفرنسيين ترحيلهم إلى فرنسا، فسيُسلَّمون للقضاء على الفور».
الخطوة الفرنسية التي تُعدّ سابقة في هذا السياق، تلبّي واحداً من المطالب التي حملها مسؤولون في «مجلس سوريا الديموقراطية» و«الإدارة الذاتية» إلى باريس وغيرها من العواصم الأخرى. وهي مطالب ما زالت تصوّب على فكرة الهروب من «المنطقة الآمنة» المدارة تركياً، إلى منطقة تدار أممياً أو دولياً.
وفي جولة لقاءات تجريها «الرئيسة المشتركة للهيئة التنفيذية لمجلس سوريا الديموقراطية»، إلهام أحمد، في الولايات المتحدة الأميركية، أكدت أن «المجلس» يخطط لمرحلة ما بعد الانسحاب الأميركي، لأن واشنطن «لا تنوي التراجع عن قرار الانسحاب». ولفتت إلى أنها ستعمل على حثّ أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي على تغيير خطط الانسحاب، قبل أن يعود زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل، ليعلن مساء أمس أنه أدخل تعديلاً على مشروع قانون موسّع في شأن الأمن في منطقة الشرق الأوسط، يدعو إلى «التزام مستمر» لحين هزيمة «القاعدة» و«داعش»، وغيرهما من التنظيمات الأخرى، ويشمل كلاً من سوريا وأفغانستان.
كذلك ربطت مصادر متابعة وصول تعزيزات أميركية جديدة إلى شرق الفرات، بالعمل المكثّف المطلوب لحلّ ملف مقاتلي «داعش» غير السوريين، بما يتضمنه ذلك من تحديد هوياتهم والتحقيق معهم بهدف جمع معلومات استخبارية مهمة للغاية.