دراسات/مقالات

المغتربون ومسؤوليتهم القوميّة في إنقاذ الأمة

د. ادمون ملحم

عام 1925، نشر الشاب أنطون سعاده في مجلة “المجلة” التي كانت تصدر في البرازيل مقالة بعنوان “القضية القومية الصهيونية وامتدادها”. في هذه المقالة، شرح سعاده، وكان آنذاك لم يتجاوز الحادية والعشرين من عمره، كيف أن الحركة الصهيونية غير الدائرة على محور طبيعي تقدّمت تقدماً كبيراً في تحقيق أهدافها وذلك بسبب إجراءاتها القائمة على خطة نظاميّة دقيقة.. وأوضح بأنه إذا لم تقم في وجه الحركة الصهيونية حركة نظاميّة أخرى معاكسة لها كان نصيبها النجاح. وفي المقالة ذاتها وجّه سعاده لأبناء جاليته المغتربين اللوم قائلاً:

“أليس من الجبن والتخاذل أن تجتمع في سان باولو حفنة من اليهود للتآمر على سلب السوريين قسماً كبيراً من بلادهم دون أن يكون لآلاف السوريين الموجودين في سان باولو جمعية منظمة تنظر في مثل هذا التآمر المعيب وتعمل على إحباط المساعي التي يقوم بها الصهيونيون لإخراجنا من بلادنا؟ أليس من العار أن تعتمد الجالية السورية في صد هجمات الصهيونيين، على أفراد قلائل ليس في أيديهم من الممكنات ما يخوّلهم إتيان شيء فعال؟ ماذا يفيد عمل الأفراد اذا لم تترتّب عليه حركة فعالة تقوم بها جمعية أو حزب يمثل الجالية؟ الصهيونيّون آخذون في عملهم ونحن لا نأتي عملاً إلا الكلام الفارغ وقتل الوقت وفي حالة كهذه لا نرى كيف يمكننا الدفاع عن حقوقنا دفاعاً ناجحاً”.[1]

وسعاده الشاب قاده تفكيره عام 1932 إلى تأسيس الخطة النظاميّة الدقيقة المعاكسة للحركة الصهيونيّة، في حزب سري بداية، وجعلها خطة قوميّة شاملة لكل أبناء الشعب المقيمين والمغتربين، تدعوهم للتوحِّد حول قضية وجود الأمة وسيادتها واستقلالها وتقدمها وتسير بهم إلى الحرب جماعة واحدة ليس من الوجهة الروحية فقط، بل من الوجهة الاجتماعية أيضاً. هذه الخطة النظامية التي أطلقها سعاده في حركته القومية الاجتماعية توجّهت إلى المغتربين السوريين لسببين أساسيين:

ماذا يفعل أفراد قلائل محدودو الإمكانات تجاه أمتهم من دون حركة فعّالة ذات خطة نظامية دقيقة؟

السبب الأول، لأنهم أبناء الأمة ويشكلون جزءًا منها وامتداداً لها وصلاتهم بها لا تزال وثيقة، وبالتالي فإن عليهم واجبات قوميّة تجاه البلاد التي أبصروا فيها النور. من هذا المنطلق يقول سعاده:

“صحيح أن البلدان التي ننزح إليها كالبرازيل وغيرها تشبه وطناً ثانياً لنا بما نجده فيها من حسن الضيافة وهذا يوجب علينا شكر هذه البلدان الحرة، ولكنه في الوقت نفسه يوجب علينا الاهتمام بالبلاد التي رأينا فيها نور الحياة وعرفنا بقوميّتنا التي يجب أن نحافظ عليها وأن نقوم بواجباتنا نحوها. والذي لا يعتبر قوميته في سورية لا يعتبرها في بلاد أخرى”.[2]

ويشدّد سعاده على ان “كل سوري أينما كان وحيثما وجد مسؤول عن الذل الضارب أطنابه في بلاده والعبوديّة الواضعة نيرها على عنقه وأعناق مواطنيه لذلك يجب على كل سوري سواء كان في الوطن او المهجر، ان يعمل لإنقاذ وطنه من الذل والعبودية…”. [3]

فلا تقولوا يا أبناء شعبي المغتربين إننا قد أصبحنا بين أمم حرة فلننس عبودية الأمة التي جئنا منها. إن النهضة القومية الاجتماعية تقول لكم: “أنتم بين الأمم الحرة كالحلميات تمتص من حيويات غيرها. فإذا لم تكونوا أنتم أحراراً من أمة حرة فحريّات الأمم عار عليكم”.[4]

ولا تقولوا يا أبناء شعبي المغتربين “ما لنا ولما يحدث في الوطن الذي هجرناه”، فالنهضة القومية الاجتماعية تجيبكم: “أنتم سوريون وشرفكم مقيد بشرف سورية”.[5]

ولا تقولوا يا أبناء شعبي المغتربين ماذا نستطيع أن نفعل من هذا البعد الشاسع عن بلادنا وعن أرض المعركة. فالنهضة القومية الاجتماعية تقول لكم: “لا تكونوا قليلي الثقة بأنفسكم”.[6] إن قوتكم المادية والمعنوية هي قوة تستطيع ان تفعل في سبيل الوطن والأمة ما يأتي بنتائج كبيرة بشرط توظيف هذه القوة في أطر الخطة النظاميّة الدقيقة وغاياتها العظمى.

والسبب الثاني، لأن حركة سعاده القومية تعي بأن عدونا القومي قد نظّم نفسه في حركة عالمية خطيرة انطلق منها الى إقامة دولة مصطنعة على أرض فلسطين في كيان استيطاني – توسعي وعنصري. وسعاده ينبهنا: “بأن مئات الفروع اليهودية المنتشرة في جميع أنحاء العالم المندمجة في المنظمة الصهيونيّة تعمل عملاً واحداً منظماً، وترمي الى غاية واحدة واضحة هي: الاستيلاء على سورية كلها وتحويلها الى وطن قومي خاص باليهود…”. وإذا حاولنا، أن نختصر عمل الفروع اليهودية بكلمات موجزة، فنقول بأنه يهدف إلى إقناع العائلات اليهودية التي تعيش خارج فلسطين بوجوب الهجرة إلى “أرض الآباء والأجداد”، “أرض الميعاد”، والعيش في ظلال دولتهم المصطنعة التي، كما يعتقدون، ستنير الطريق أمام العالم بما للشعب اليهودي من إبداع متميّز وعبقريّة خاصة وقيم روحية وحضارية، على اساسها كان اختيار الله له لينمي عبقريته الخاصة وليكون منارة خلاص لجميع الشعوب. وهذا ما تقوله الكاتبة الصهيونية ترودفايس – روزمارين في كتابها “البقاء اليهودي” الواسع الانتشار.[7]

وعلى الصعيد التربوي، فإن الفروع اليهودية المنتشرة في العالم تعتمد أساليب وبرامج متنوّعة الغاية منها تغذية الفرد اليهودي منذ صغره بمبادئ الصهيونية وذلك من خلال تعليمه التوراة والتلمود وتلقينه أمثولات في المعتقدات الدينية اليهودية التي تشحن فيه الغرور القومي وتنمي وجدانه اليهودي فينشأ على حب صهيون، والرغبة في العمل بكل وسيلة على تحقيق الأهداف الصهيونية.[8] وفي مذكراته المنشورة عام 1965 يقول بن غوريون: “كان من غير الممكن أن أبقى في روسيا. كنت أفكر بالذهاب إلى فلسطين منذ الخامسة من عمري. فقد ولدت في بيت صهيوني، ورضعت العبريّة وحبّ صهيون منذ الطفولة. وتعلمت العبرية منذ الثالثة من عمري. وكان جدي يعلمني التوراة. وكان الجد “سمحاً” يلهب مشاعرنا، ويحثنا على الذهاب إلى أرض الميعاد”.

من هنا نعتبر أن مواقع معركتنا المصيرية مع هذا العدو لا تنحصر على جبهات القتال العسكريّة في الوطن فقط، بل هي تمتدّ إلى كل المغتربات. إنها معركة قوميّة، حضاريّة، شاملة لكل الجبهات العسكرية والدبلوماسية والإعلامية والثقافية والنفسية وغيرها من مجالات الحياة. لذلك فإن إعدادنا لهذه المعركة بكل أبعادها واحتمالاتها يتطلب منا الابتعاد عن قواعد العمل الارتجاليّة والانفعاليّة واعتماد التخطيط العلمي في أساليبنا وخطواتنا والتفكير الموضوعيّ والمنهجيّ أساساً لكل تحرّكاتنا وأعمالنا التنظيميّة.

المطلوب أن نأخذ بالمبادئ القومية الصحيحة، الصالحة لحياتنا وارتقائنا، وأن نقوم بالأفعال الباهرة معتمدين على مبدأ “القوة المنظّمة” في تأييد سيادتنا وحقوقنا وقضيتنا القومية

برأينا أن انتشار المغتربين الواسع في قارات العالم يشكل خزاناً إنسانياً كبيراً له تأثيره وفاعليته في خدمة قضيتنا القومية وخاصة في المجالات الإعلامية والثقافية والأدبية والمالية والإقتصادية. لذلك نحن ندعو أبناء شعبنا المغتربين للاشتراك في العمل القوميّ العظيم وللقيام بواجباتهم تجاه أهلهم ووطنهم وأمتهم وأن يكونوا عوناً كبيراً لها في محنتها.

وأولى واجبات المغتربين هي الانخراط في حملات التوعية المنظمة ونشر الحقائق حول طبيعة عدونا العنصرية وأساليبه الإرهابية وأهدافه التوسعيّة وفضح “سلامه” المزيّف وأضاليله الدينية والوقوف بوجه تسلله إلى مجتمعنا من خلال محاولات التطبيع وشتى السبل والوسائل التي يعتمدها والأعمال الإجراميّة التي يقوم بها لإخضاعنا ولتبرير وجود دولته العدوانية ولينال دعم الغرب بدوله وشعوبه على السواء.

وثاني واجب قومي علينا كمغتربين هو السعي الى تأمين الوسائل التي تربط أبناءنا والأجيال التي ولدت في دنيا الاغتراب بوطننا الجميل وتعليمهم لغتنا القومية وتقاليدنا الجيدة وتاريخ بلادنا الحافل بالمآثر وتشجيعهم لزيارة الوطن والتعرف على طبيعته الجميلة ومعالمه السياحية وآثاره الخالدة. إن عدوتنا الصهيونية تحرث في حقل التربية والتعليم وتسهر على تربية أولاد الأفاعي منذ طفولتهم… فلنعتمد نحن أسلوب العمل مع أولادنا وهم في مرحلة تكوينهم النفسي، نعلمهم حب الوطن ونرشدهم إلى الحقيقة ونزرع في نفوسهم الفضائل القوميّة واعتماد الحق ومقاومة الباطل وسحق القبح واللؤم…

فتعالوا ننتج الأعمال الثقافية والأدبية التي تحرّك العمل القومي بين المغتربين ونحثّهم على التعاون والوحدة والنضال والتمسك بروابطهم القومية والقيام بواجباتهم تجاه بلادنا وتزرع في نفوسهم المحبة والتسامح القوميين وحب الوطن والحنين اليه.

وتعالوا ننتج الأبحاث الفكرية والتاريخية والعلمية التي تزيد من وعي المغتربين وأبنائهم وتفتح النور أمام بصائرهم ليروا تاريخ وطننا الحقيقي المجيد وليتعرفوا على ما أعطته بلادنا من اختراعات فكرية واكتشافات عملية وفلسفات دينية واجتماعية وشرائع تمدنية وفضائل وقيم إنسانية سامية والعديد من المآثر الثقافية العظيمة التي تظهر حقيقة نفسيتنا المتفوّقة، الكريمة في أخلاقها وعطائها والخلاّقة في إنتاجها وإبداعها، والتي تثبت بأن بلادنا سورية كانت منذ فجر التاريخ مهد الحضارات العالمية وهادية للأمم وهذه حقيقة يؤكد عليها عدد لا يحصى من المؤرخين والعلماء الاجتماعيين في العالم.

وتعالوا أيها المثقفون والمفكرون والأدباء والخطباء لنضيء على تراث البطولة والمواجهة المدفون في تاريخنا القوميّ في كل حقبه، تراث التصدي لتنين الشر والظلم والغضب ومواجهته والانتصار عليه في سبيل استمرار الحياة وبقاء الخير فيها…

وتعالوا أيها الفنانون والموسيقيون لنبرز نفسيتنا الجميلة وما تتمتع به من خير وجمال وإبداع ولنقيم الأعمال والنشاطات الفنية التي تظهر حياتنا القومية بأجمل مظاهرها وتعكس سمو نظرتنا إلى الحياة بما تقدّمه من صور الفرح الشعبي والفلكلور القومي والفنون الراقية من مسرح ورسم وغناء وموسيقى تسمو بها نفوسنا وتقوّي ثقتنا بأنفسنا وإيماننا بأننا شعب تختزن في نفسيته قدرات إبداعية وقوى خلاّقة، شعب قادر أن يخطو خطوات الانتصار وأن يحقق الآمال الكبيرة والرغائب العالية والغايات العظيمة.

إن الواجب القومي والشرف القومي يتوجبان من المغتربين الاهتمام في مساعدة شعبنا المقيم وفي دعم صموده أمام ما يتعرّض له من مجازر ومذابح وتهديم ومن إفقار وبؤس وإذلال وجوع ونزوح وتشريد. إن أقل ما يمكن أن يفعله المغتربون هو تقديم العون لأمتهم في محنها ونكباتها والتخفيف من آلام شعبنا الكبيرة ومآسيه وتضميد جراحه النازفة وتأمين الدعم المالي والمعنوي لكل أهلنا الذين يتعرضون يومياً لغضب العدو ولهمجيته والذين يعانون من الفقر والجوع والقهر والإذلال نتيجة فساد حكامنا وزعمائنا وتقاعسهم وفشلهم وطغيانهم واستغلالهم موارد البلاد وسرقتهم أموال الشعب وتحويلها إلى الخارج.

إن المطلوب منّا كمغتربين هو أن نقوم بواجبنا القومي تجاه وطننا وحريته وأن نشترك في العمل القومي من أجل إنقاذ بلادنا وإنهاضها وشق طريق الحياة والتفوق أمامها وأن نكون عوناً كبيراً لأهلنا المتألمين في فقرهم ومصائبهم ومحنهم. المطلوب أن نأخذ بالمبادئ القومية الصحيحة، الصالحة لحياتنا وارتقائنا، وأن نقوم بالأفعال الباهرة معتمدين على مبدأ “القوة المنظّمة” في تأييد سيادتنا وحقوقنا وقضيتنا القومية لأن القوة، يقول سعاده، “هي القول الفصل في إثبات الحق القومي او انكاره”.[9]

[1] راجع بحث “القضية القومية الصهيونية وامتدادها” في أنطون سعاده. الآثار الكاملة – الجزء الاول (مرحلة ما قبل التأسيس 1921- 1932) ص 170.

[2] المرجع ذاته، ص. 171.

[3] راجع “نداء الزعيم إلى السوريين عبر الحدود”، أنطون سعاده. الآثار الكاملة – الجزء الرابع، ص 19.

[4] راجع “نداء الزعيم إلى السوريين عبر الحدود”، أنطون سعاده. الآثار الكاملة – الجزء الرابع، ص 19.

[5] راجع “نداء الزعيم إلى السوريين عبر الحدود”، أنطون سعاده. الآثار الكاملة – الجزء الرابع، ص 19.

[6] المرجع ذاته.

[7] راجع كتاب “تاريخ يهوه” لجورجي كنعان، منشورات مؤسسة النهضة، طبعة أولى، بيروت 1994، ص 41. راجع أيضاً

Weiss-Rosmarin, T. “Jewish survival” N.Y. 1949.

[8] أنظر المرجع ذاته، ص 43-44.

[9] راجع المبدأ الإصلاحي الخامس، أنطون سعاده. الآثار الكاملة – الجزء الثاني ص 100.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى