الحراك الشعبي في لبنان بين الاستقلال والاستغلال* ـــــ البروفسور كلود عطية**
ـ أيّ انتفاضة أو حركة مطلبية حقيقيّة يجب أن تتبنّى معركة تحرير متكاملة الجبهات: تحرير الاقتصاد من الفساد وتحرير الفكر من الطائفيّة وتحرير الأرض من الاحتلال…
ـ الفساد هو من ضرورات الرعاية الغربيّة للبنان لأنها تسمح بدعم وتمويل من تريد ومحاربة من تشاء… ونحن نعلم مَن تدعم ومَن تحارب أميركا ماليّاً في لبنان…
ـ المكاشفة والمحاسبة والشفافية تُبطل عمل الدول الخليجيّة والغربيّة في لبنان أيّ حتى الفساد يحتاج إلى ثورة على سياسة لبنان الخارجيّة لمحاربته بفعاليّة
في البداية، وبمناسبة عيد تأسيس الحزب السوري القومي الاجتماعي تحية إكبار وإجلال الى أرواح الشهداء الأبطال في نسور الزوبعة المحلقين دائماً وأبداً في سماء العز والنصر والكرامة.
أيها الرفقاء، ذكرى التأسيس تأتي في ظروف شديدة التعقيد تمرّ بها الأمة السورية، وآخرها ما يشهده الكيان اللبناني منذ 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019 من حراك شعبي فاجأ اللبنانيين أنفسهم، لا سيما بعض القوى السياسية والأحزاب التي بدت مرتبكة في كيفية التعاطي معه.
من هذا المنطلق، كان لا بدّ من العودة الى الحزب السوري القومي الاجتماعي وإعادة التذكير حسب سعاده أنّ الحزب هو فكرة وحركة تتناولان حياة أمة بأسرها، إنه تجدّد أمة توهّم المتوهّمون أنها قضت إلى الأبد…” وقوله: “انّ زمن القطعان قد انتهى، وابتدأ زمن الجماعة المدركة الحرة!”
ففي مقاربة الواقع اللبناني حسب فهمنا القومي قد تقوم الجماعة المدركة الحرة بحركة مطلبية شعبية تعبّر عن نفسها بالتظاهر السلمي والاعتصام الحضاري وتسعى لتأمين حقوق المواطن والإنسان وإقامة الدولة العادلة.. وهي بنظرنا بدأت كحركة محقة يتوجب الإنصات إليها والعمل بما ترفعه من مطالب.. ويعتبر الاستنكاف عن الاستجابة لها وعدم تلبية مطالبها خيانة للوطن والإنسان، ودفعاً للبنان نحو الرجعية والانهيار. خاصة بعد أن رفعت شعارات (ولو كانت دون رؤية وخطة عمل) الدولة المدنية وإسقاط النظام الطائفي.. والتزاماً بقول سعاده “إنّ لبنان يهلك بالطائفية ويحيا بالإخاء القومي” وانطلاقاً من رؤيته القيادية، التي اسْتَشَفَّ منها الويلات القادمة، منها التعصّبات الدينية التي سبّبت في سورية معضلةً هي أشبهُ شيء بالمعضلة البلقانية من المنازعات والانقسامات الوخيمة العواقب. وخيرُ دليلٍ على ما استشفَّهُ سعاده أيضاً هو هذا الطاعونُ الطائفي الذي جَلَبَ الويلات إلى «الإقليم» من إضاعة فلسطين، إلى الحرب في لبنان وفي الشام وفي العراق. وسعاده هو أوَّلُ من ساوى بين خطر النعرات الطائفية والخطر الصهيوني.
قد تتميّز التظاهرات في لبنان في بعض أشكالها بأنها شاملة، عابرة للطوائف والمناطق ومتفاوتة في أعمار المشاركين فيها والطبقات الاجتماعية التي ينحدرون منها. وقد تُجمع في كثير من الأحيان من حيث المزاج المنتشر في التظاهرات على إسقاط الطبقة السياسية الحاكمة وتجاوز نظام المحاصصة الطائفية وتقسيم المناصب والمنافع العامة. لكن هناك إشكالية تطرح نفسها هنا، هذه الانتفاضة التي لا يزال أمامها تحدّي بلورة مطالبها بشكل أوضح خاصة أنها انتقلت في جزء كبير منها من مطالب معيشية محقة الى مطالب سياسية مشبوهة بدأت ملامحها تظهر في ساحات التظاهر عبر الهتافات التي تتعمّد المسّ باستراتيجية لبنان الدفاعية ضدّ العدو “الإسرائيلي”، وأعني بذلك سلاح المقاومة. ففي السياق اللبناني بشكل خاص، أيّ انتفاضة أو حركة مطلبية حقيقيّة يجب أن تتبنّى معركة تحرير متكاملة الجبهات: تحرير الاقتصاد من الفساد، تحرير الفكر من الطائفيّة وتحرير الأرض من الاحتلال. كيف إذاً لانتفاضة تدّعي تحرير الناس أن تصوّب على طرف التحرير الأقوى في لبنان في ما يتعلق باستراتيجيته الدفاعيّة ضدّ الاحتلال “الإسرائيلي”؟ ألا يعني ذلك تشريع الأبواب أمام الانتهازيين من الداخل والخارج وأصحاب الأجندات المشبوهة ليصطادوا في «الماء العكر»؟
الجواب دائما عند سعاده: “يجب على السوريين، إذا كانوا يطمحون إلى الاستقلال والحرية كأمة حية، أن يتحدوا كالأمم الحية التي سبقتهم، فيعتمدون على أفعالهم لا أقوالهم، وعلى اتحادهم لا منازعاتهم، وعلى أنفسهم لا غيرهم، لأنّ هذه هي الطريق الوحيدة إلى الحرية والاستقلال”.
هكذا منذ بدايته في الكتابة، وعى سعاده حركة الصراع القومي، والترابط العضوي بين العدو الداخلي المتمثل بالتعصّب الديني والتجزئة القومية من جهة والعدو الخارجي المتمثل بالاستعمار والصهيونية من جهة أخرى.
هذا التفكير العملي الذي اعتمده سعاده لإضرام «الثورة السورية» وتعبئة مكامن القوة في الأمة، لم يجرفه إلى اعتماد مبدأ الغاية تبرّر الوسيلة، فقد ميّز بين “السياسة الرجعية القائلة بإعداد القوة واتخاذها وسيلةً لتنفيذ المطامح والمطامع» و«سياسة أخرى تقول بإلغاء المطامع وإبطال الاعتداءات ومنع استعمال القوة إلا لتأييد الحق والحرية والعدل”.
وأنا أنطلق من استشراف سعاده علّني أثبت أنّ هناك مؤامرة خارجية على لبنان.. لتوظيف الحراك وجرّه الى تنفيذ الأجندة الأميركية..
لذلك، نرى أنّ المشهد اللبناني بات اليوم مسرحاً لحركتين، حركة شعبية مطلبية محقة، وحركة مشبوهة يمكن تأكيدها أو نفيها عبر هذه المعطيات التي تثبت وجود مؤامرة خارجية بقيادة الولايات المتحدة الأميركية على لبنان بشكل عام وعلى المقاومة بشكل خاص. بدأت هذه المؤامرة تترجم نفسها بالضغط على المواطن لشلّ الحركة عبر قطع الطرقات وإقفال المؤسسات العامة والمرافق الإنتاجية لترفع درجة الفقر والعوز ونشر البطالة أكثر. مؤامرة تستهدف لبنان وحقوقه السيادية في أرضه وسيادته وثرواته ومقاومته وسلمه الأهلي واستقراره الاجتماعي.
والخطورة في الأمر تكمن في أنّ الخارج وأخذاً بالاعتبار الخصوصية اللبنانية المذكورة، يتكئ على مطالب الداخل ويستعملها قناعاً لحركته، وبالتالي استثمار التحرك الشعبي والتحشيد في الساحات، واعتماد قطع الطرق الرئيسية لشلّ الحركة الداخلية وتعطيل الحياة في المستوى الرسمي والخاص، ومن ثم إحداث فراغ سياسي عبر استقالة الحكومة ومنع تشكيل البديل سريعاً مع منع مجلس النواب من الانعقاد، أما الأخطر والأهمّ فهو الذي تمثل بالحرب الاقتصادية بشكل عام وبالضغط النقدي والمصرفي بشكل خاص.
ما هي الأسباب التي تدفعنا الى الاعتقاد بوجود مؤامرة خارجية بقيادة الولايات المتحدة الأميركية؟
قبل الدخول في المعطيات الحالية حول التدخل والأطماع الأميركية لا بدّ من العودة الى مقاربة سعاده لهذه المسألة التي كانت بالنسبة إليه مواجهة مع القوى الدولية ذات المصالح الكبرى، الولايات المتحدة وبريطانيا المتنافستين على النفط، والمتفقتين على تصفية من يدعو إلى تحرير النفط أو تحريكه ضدّ الاستعمار، والصهيونية التي أقامت كيانها بدعم الغرب غير المحدود لها.
إنّ سعاده كان يمثل القوة الجديدة الصاعدة لمنازلة هذا التنين، كما أعلن ذلك في خطاب دير الغزال: “ما أخبث التنين الذي ننحدر لمنازلته وسحقه، إنه تنين متعدّد الرؤوس، كثير البراثن والمخالب حادّ الأنياب… إنها أنابيب النفط التي يبيعها الفساد للأجنبي بيعاً، أنابيب ما أشبه انسيابها في أرضنا بتلك الأفاعي التي تنساب نافثة سمومها! إنها الرشى تعطى لأبناء الذلّ، لورثة الظلم في الأمة، ليعلنوا ما لا يريد الشعب إعلانه، لا ليعلنوا إرادة الشعب، بل إرادة الأجنبي المفروضة على الشعب لذله“.
بهذا الخطاب وغيره من الخطب رسم سعاده مشهد المواجهة، مشهد التصدي لكلّ القوى المعادية في منعطف خطير من المؤامرة على بلادنا، وهو نهج أكبر بكثير من السعي إلى إقامة نظام علماني ضدّ النظام الطائفي في لبنان، فهذا جزء من الاستهداف لا كلّ الاستهداف، بل الهدف هو تجميع قوة الأمة في مواجهة المخطط المعادي.
المخطط المعادي الآن هو نفسه الذي حذر منه سعاده.. هو أميركا التي تريد من لبنان أولاً نفطه الذي ظهر، وتريد ثانياً أن تهدي “إسرائيل” من أرض لبنان ومائه مساحات شائعة تلزمها كما تقول لأغراض دفاعية في البرّ وتحتاجها لما فيها من غاز في البحر فضلاً عن توطين نصف مليون فلسطيني فيه، وتريد ثالثاً إقامة حكومة لبنانية لا تعترف بالمقاومة وطبعاً لا تضمّها ولا تصغي إلا لأوامر أميركا. حكومة تكون طيّعة لها لا صوت فيها لمعترض على إملاءات أميركا أو لمطالب بحكومة سيادية. وحتى يكون لها ذلك وتطمئن لتحقيقه فإنها تريد إخراج حزب الله من الحكومة ثم تحجيمه في مجلس النواب ثم عزله عن بيئته ثم خنقه ودفعه الى الموت البطيء من غير حرب أو مواجهة.
إذن لأميركا والغرب أهدافهما وللشعب اللبناني مطالبه، أما الخطورة في الأمر فإنها تكمن في إصرار الخارج على المزج والخلط بين مؤامراته وأهدافها وبين الحركة الشعبية ومطالبها، ليتمكّنوا من تحقيق أهداف المؤامرة على لبنان عبر استغلال جوع الشعب وألمه الذي أنتجته سياسات أتباع أميركا في العقود الأخيرة، علماً أنه عندما تتحقق أهداف المؤامرة في وضع اليد على النفط واقتطاع الأرض وتحوّل لبنان محمية أميركية لا مقاومة فيها، عند ذلك ستغيب مطالب الحراك الشعبي وقد يتحوّل الوضع اللبناني الى أسوأ مما كان عليه قبل الحراك. وقد بدأت نذر ذلك بالظهور كما سيتمسك الأميركي بالطبقة السياسية الفاسدة والناهبة للبنان لتتابع سياسة النهب وإغراق لبنان بالديون حتى تتيح لأميركا توطين الفلسطينيين خدمة لـ للعدو “الاسرائيلي”. ومن المفيد أن نذكّر هنا بأنّ ما رُفع من مطالب في إطار ما أسمي ثورة سورية وما انتهت إليه الأمور من سرقة أميركا للنفط السوري واحتلال تركيا لأرض سورية، واقع فرض على سورية وشعبها التحضير لإجراءات فاعلة لتحرّر أرضها وثروتها.
في السياق نفسه، ما يثبت فكرة المؤامرة الأميركية أيضاً، هذه الخطة «الفيلتمانية»، التي ترسم خارطة طريق لمستقبل لبنان، وضرورة ان لا تغادره أميركا، وفق الديبلوماسي الأميركي، لأنّ روسيا والصين إضافة الى إيران وسورية، سيكون لهم النفوذ فيه، فتعتبر المصادر، انه بيت القصيد، وهو إخراج لبنان من «محور المقاومة»، كما من إقامة علاقات مع روسيا والصين، وقد تحدث الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله مؤخراً عن التوجه نحو الصين لحلّ الأزمة الاقتصادية، وجذب استثمارات فيها، وهذا ما أزعج أميركا التي تريد للبنان أن يبقى يدور في فلكها، فتمنعه من أن يحصل على سلاح روسي للجيش فتعرقل مهمته، كما ترفض ان تدخل شركات أوروبية مثل الصينية والإيرانية، لحلّ أزمة الكهرباء، او بناء سدود مياه وطرقات ومشاريع أخرى.
كما يمكننا التأكيد على أنّ أميركا تتطلع الى ان تكون شريكة في النفط اللبناني، الذي دخلت إليه ثلاث شركات وهم نوفاك الروسية وإيني الإيطالية وتوتال الفرنسية، وهذا ما أزعج واشنطن، التي عملت على تأخير ترسيم الحدود البحرية والبرية للبنان عند خط الناقورة، وأعطت أميركا «إسرائيل» في المنطقة الخالصة المتنازع عليها عند بلوك رقم 9 في الجنوب والبالغة 860 كلم2، نصف المساحة التي هي حق للبنان، الذي قرّر البدء بالتنقيب فتحركت «إسرائيل» مع أميركا، لمنع حصول ذلك.
في التحليل السياسي، لا بدّ من قراءة متأنية لإفادة فيلتمان، عندما يتحدث عن انّ روسيا باتت لديها قواعد على البحر الأبيض المتوسط، وموانئ وآبار نفط، وهو ما يضايق أميركا ويهدّد مصالحها في المنطقة، فتحاول استغلال «الحراك الشعبي المطلبي»، لتحقيق أهدافها ومصالحها في لبنان.
مكننا أن نثبت المخاوف الأميركية من التمدّد الروسي ما جاء في صحيفة الكرملين الروسية “vz” من أنّ الحراك اللبناني هو “صراع جديد في الشرق الأوسط يهدّد مصالح روسيا”. وتقول الصحيفة إنّ نقطة ساخنة جديدة قد تشتعل من جديد على الحدود مع سورية، وأنّ الأزمة السياسية في لبنان “جار بشار الأسد” تهدّد بتدمير السلام الهش بين الطوائف. وتتساءل عن القوى، التي تقف وراء الأزمة اللبنانية الجديدة، وعن الأخطار التي تحملها الإضطرابات في بيروت للمنطقة ككلّ، وما إذا كان بوسع روسيا “المُصلح الرئيسي في الشرق الأوسط” التأثير على الوضع .
كما نثبت هذا الكلام بما نقله موقع “rambler” الإخباري فيضع الحدث اللبناني ضمن أنبائه المالية، ويرى أنّ “الإحتجاجات اللبنانية تهدّد بإلحاق خسائر بروسيا”، ويعتبر أنّ روسيا لذلك قلقة وهي تتابع الأحداث في لبنان. ويذكّر الموقع بمذكرة التفاهم والتعاون في حقل النفط والغاز، التي وقعها البلدان في العام 2013، وتعزز التعاون بين البلدين منذ ذلك التاريخ، برأيه. فقد وقعت الحكومة اللبنانية في نهاية العام 2017 عقداً مع ثلاث شركات من بينها شركة روسية للتنقيب عن النفط والغاز في حقولها البحرية، واتفاقية أخرى مطلع العام الحالي مع شركة روسية منفردة حول إدارة واستثمار وتوسيع خط أنابيب النفط في طرابلس. وينسب الموقع إلى مصادر دبلوماسية في بيروت قولها، بأنّ لبنان معنيّ بتوسيع التعاون الإقتصادي بين البلدين ومشاركة البيزنس الروسي في المشاريع الكبرى في لبنان، على غرار التنقيب عن النفط والغاز في حقوله البحرية. ولذلك، يعتبر الموقع، أنّ مخاطر سقوط الحكومة اللبنانية تطال موسكو بالمباشر.
في النتيجة، انّ الهدف من كلّ ما تقدّم هو إخضاع الشعب اللبناني للإرادة الأميركية وللشروط الأميركية والضغط على الحكومة اللبنانية والقيادات السياسية والمدنية المستحدثة ليتخلوا عن حقوقهم وأرضهم وكراماتهم ويخضعوا بالكامل للإحتلال “الإسرائيلي” ويقبلوا بصفقة القرن التي تُجهز على ما تبقى من المسألة الفلسطينية لمصلحة الكيان الصهيوني. وهذا الكلام الذي يضعه البعض في إطار نظرية المؤامرة، هذا البعض هو متآمر منذ توليه السلطة والتاريخ لا يرحم كلّ من تعاون مع العدو الصهيوني وكلّ من تآمر مع دول الغرب والخليج على حرية وسيادة لبنان.. وهذا ما يؤكد أيضاً نظرية المؤامرة واستغلال الحراك الشعبي لضرب المصلحة الوطنية التي تبدأ وتنتهي بمقاومة العدو..
أما ما يثبت هذا الكلام، فهو أنّ الحراك بات بمشاركة بعض الأحزاب الحليفة لواشنطن والسعودية والإمارات والتي سبق لبعضها وكان حليفاً للكيان الصهيوني الغاصب وقد يجوز القول بأنه ما زال.. فالحديث السياسي في لبنان عن توجيه أميركي لقيادات في الحراك، هو برأينا العلمي صحيح، بالإضافة الى التواصل الدائم ما بين العواصم الغربية والخليجيّة مع رموز في ما يسمّى بالمجتمع المدني. كما نؤكد العلاقة الدائمة المشبوهة بين “القوّات” بالأميركيين والخليجيين، بالإضافة الى مواقف النائب السابق وليد جنبلاط التي ارتبطت بتحقيق غايات السفارات التي يرتبط بها بالاضافة الى الاقتصاص من خصومه وتحديداً باسيل، وبالتالي استيعاب الشارع الدرزي وإعادة استنهاض القواعد الحزبيّة في ساحة الموحّدين الدروز في مرحلة قد تقوّي النائب تيمور جنبلاط كقيادي صاعد بعد تململ شعبي درزي واضح في الآونة الأخيرة.
كل هذا يؤكد لنا انّ تلك العواصم استغلت ومن ثم حركّت التظاهرات باتجاهات مختلفة تماماً عن الشارع المطلبي المحق، وبالتالي دخلت بقوة على خط التوظيف السياسي لتحقيق أجندات لا علاقة للحراك الشعبي بها، لا من قريب ولا من بعيد.
أما بالنسبة لرئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري الذي قرأ البيان الإصلاحي الشهير والذي استقال رغم وقوف معظم الأطراف السياسية معه وبشكل خاص حزب الله.. يتبيّن لنا بوضوح أنه شريك أساسي في لعبة توظيف الحراك الشعبي لتحقيق مآرب شخصية عبر تنفيذ المطالب الأميركية – الفرنسية والخليجية، عله يعيد تعويم نفسه بعد الخسارات المدوية المتتابعة على المستوين المادي والمعنوي السياسي.. من هنا، لم يكن مفاجئاً أن تكون المناطق التقليدية التي كان ولاؤها تاريخياً لآل الحريري أول من خرج للتظاهر مطالبةً بإسقاط الحكومة التي يرأسها. وعلينا أن لا ننسى أنّ الحريري سفير لقوى طبقيّة داخليّة ولقوى خارجيّة رجعيّة تصرّ على فرض نظام اقتصادي ريعي استغلالي، وتصرّ أيضاً على محاربة الإنفاق الحكومي، وتصرّ أيضاً على معاداة المقاومة. أما الفساد فهو من ضرورات الرعاية الغربيّة للبنان لأنها تسمح بدعم وتمويل من تريد ومحاربة من تشاء. نحن نعلم مَن تحارب أميركا ماليّاً في لبنان، لكن نحتاج لأن نعرف أيضاً مَن تكافئ أميركا ماليّاً في لبنان. والمكاشفة والمحاسبة والشفافية تُبطل عمل الدول الخليجيّة والغربيّة في لبنان. أي حتى الفساد، يحتاج إلى ثورة على سياسة لبنان الخارجيّة لمحاربته بفعاليّة.
في التحليل الاقتصادي، كان سعد الحريري يقرأ مطالب حرفيّة من البنك الدولي والمؤسّسات والحكومات الغربيّة. علنا نتذكر أنّ وصفات رفيق الحريري الاقتصاديّة كانت وصفات البنك الدولي، والذي كان رئيسه من أتباعه. والمطالبة بالتغيير من دون شعارات تغيير السياسة الخارجيّة للبنان عبثيّة.
مثلا: كيف بقي – وكيف يبقى بالرغم من كلّ شيء – رياض سلامة في موقعه في المصرف المركزي كلّ هذه العقود؟ وسلامة، الذي استقدمه الحريري من «ميريل لينش» وكيل محلّي لوزارة الخزانة الأميركيّة إلى درجة أنه ابتدع – هو والمصارف اللبنانيّة – كلمة «امتثال» (في ترجمة لكلمة إنكليزيّة) للإشارة إلى مطواعيّتهم المطلقة لوكلاء اللوبي الصهيوني في وزارة الخزانة الأميركيّة.
يوم كان معظم رواد النهضة ورجال الفكر والثقافة غارقين في الخطب الرنانة والنظريات وإلقاء المواعظ، عرف سعاده كيف يكوّن رداً على عهود الانحطاط والجهل والتخاذل. وهكذا عرف من أين يبدأ، ومن أين تنطلق النهضة وحركة التغيير فقال في مقال نشره في «المجلة» بتاريخ 1/4/1933 ما يلي: “وأول ما يجب أن نبدأ به هو أن نحوّل التفكير النظري، الذي لا يحقق شيئاً بذاته إلى تفكير عملي يدفعنا إلى العمل على تحقيق ما نؤمن به ونعتقد بصلاحه… العمل للخير العام في ظلّ السلام والحرية… أقول: تفكير عملي مجموعي لأجعل منه ما يقابل التفكير العملي الفردي”.
وكم نحن اليوم بحاجة إلى تجسيد هذا «التفكير العملي المجموعي» بديلاً عن المواعظ الرنانة البعيدة عن حركة الصراع والفعل في الواقع الملموس، وبديلاً عن المكاسب الأنانية والأداء الشخصاني.
فإذا كانت الأزمة اقتصادية، فمختصر القول في الناحيّة الاقتصادية هي القاعدة التي أرساها سعاده «إلغاء الإقطاع وتنظيم الاقتصاد القومي على أساس الإنتاج وإنصاف العمل وصيانة مصلحة الأمّة والدولة» هي القاعدة التي تقدّمت وما زالت على كلّ الحلول الاقتصاديّة التي اعتُمدت ولم تؤدِّ إلَّا إلى نتائج قزميّة.
إذا كانت المشكلة بالطائفية السياسية، لنعد الى فكر سعاده بفصل الدين عن الدولة، هذا الفصل ضرورة ملزمةٌ كون تعلّق المؤسّسات الدينية بالسلطة الزمنية يشكّل العقبة الكبرى أمام تحقيق الوحدة القوميّة، ويسيء إلى جوهر الدين كقيمة اجتماعية بانية.
وإذا كانت المشكلة بالتبعية والمصالح الخارجية، والتهديدات الصهيونية، فما علينا إلا التأكيد على مبدأ مواجهة الغطرسة الأميركية التي تستعمل القوة المفرطة للهيمنة على العالم، بينما الشعوب تتمسك بالمقاومة كخيار للدفاع عن الحق القومي، وتحقيق الحرية والعدالة لكلّ الأمم من دون هيمنة أو استفراد أو استكبار. وهذا ما استشرفه سعاده في مقال نشره في المجلة بتاريخ 1/5/1924 تحت عنوان “سقوط الولايات المتحدة في عالم الإنسانية الأدبي”. وهذا المقال الذي يُحاكي الراهن جاء فيه «إنّ الشرقيين عموماً فقدوا الثقة الأدبية بالولايات المتحدة وسائر الدول الغربية، لأنّ الولايات المتحدة لا تفرق في شيء عن أخواتها الغربيات الطامعات في التلذذ بالاستعمار والاستبداد… “ولتكن الولايات المتحدة على ثقة من أنّ الدولارات مهما كثرت وفاضت فهي لا يمكن أن تعمي بصيرة التاريخ… وستظلّ الولايات المتحدة ساقطة إلى يوم يغيّر فيه الأميركيون ما بأنفسهم”.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*محاضرة ألقيت في 30-11-2019 في الندوة التي نظمتها مديرية المنية التابعة لمنفذية طرابلس في الحزب السوري القومي الاجتماعي بمناسبة عيد تأسيس الحزب
** بروفسور في الجامعة اللبنانية معهد العلوم الاجتماعية الفرع الثالث وباحث في علم الاجتماع السياسي وأستاذ في التنمية الاقتصادية والاجتماعية