البطولة الاجتماعية/ بقلم: د. ادمون ملحم
البطولة الواعية هي مزية أساسية من مزايا النهضة القومية الإجتماعية التي جعلت مهمّتها العظمىى سحق التنين الخبيث المتعدّد الرؤوس الذي يمثل الأباطيل، والنهوض بالأمة إلى سماء المجد والعزّ. وهذه المزية متأصّلة في طبيعة شعبنا ونجدها في كثير من حوادث تاريخنا الحضاري بدءاً من أساطيرنا الفلسفية التاريخية العميقة، التي نجد فيها صراع آلهة الخصب والحب والحياة مع آلهة الموت وقوى الشر والظلام، مروراً بتاريخ الدول السورية الهكسوسية والفينيقية وبأعمال القادة والمحاربين الخالدين أمثال سرجون الكبير وأسرحدون وسنحاريب ونبوخذنصر وهانيبعل «أعظم نابغة حربي في كلّ العصور وكلّ الأمم»، إلى الملكة البطلة أليسار والبطل يوسف العظمة الثاوي في ميسلون، فإلى غيرهم الكثيرين من الأبطال المعروفين. هذه البطولة الاجتماعية المستمرة والقائمة على المحبة والخير والحرية، محبة المجتمع وخيره وحريته، يعرِّفها سعاده بقوله: «هي بطولة التضحية الفردية في سبيل خير المجتمع وهي البطولة التي يكتشفها الدارس الخبير في صميم النفسية السورية منذ بدء التاريخ».1
إذاً، هذه البطولة الإجتماعية المناقبية تتجلى في نصرة الحق وسحق الباطل، في فعل الخير والإقدام عليه، وفي تقديم ما ينفع المجتمع والخير العام حتى لو أدّى الأمر للجُود بالنفس والتضحية الفردية. إنها بطولة حقيقية متأصّلة في الطبيعة السورية ومتجّذرة في تربة سورية الميتولوجية والروحية والفكرية والسياسية والعسكرية وفي صراع الإنسان السوري في معارك الحياة من أجل بقاء الحياة وتحسينها وديمومة الخصب والحب والجمال وانتصار الحرية ومن أجل خير الإنسانية وتقدّمها وصعودها نحو الغايات المثلى. وقد تحققت هذه البطولة السورية في مراحل تاريخية مختلفة وفي أروع الأشكال وأوسع الميادين الحضارية وخاصة في ميادين بطولة العطاء والعلم والفكر والشرائع والإكتشافات وفي معارك الحرية ومواجهة الغزاة المحتلين والحكام الظالمين وأنظمتهم الفاسدة.
هذه هي البطولة الدائمة في المجتمع ومن أجل خيره وفلاحه.. إنها ثروة مكنوزة في وجدان الأمة ومخبَّأة في تربتها الروحية كمعدن ثمين.. هذه هي البطولة المستمرة في الأجيال المتعاقبة والمرتبطة بالصراع من أجل البقاء والتفوّق، وبدحر الغزاة المعتدين. وهي بطولة نابعة من فضائل المجتمع وقيمه من خير ووفاء وشرف ومروءة وشهامة وشجاعة.. هذه البطولة المكنوزة الراقدة، نتيجة تعرّض الأمة لغزوات بربرية ولحملات إستعمارية كان آخرها السيطرة العثمانية والإستعمار الغربي، أيقظها الحزب السوري القومي الإجتماعي بتعاليمه السامية وجسّدها ببطولات القوميين الإجتماعيين وبدماء الشهداء تأكيداً للنهج الذي أوصى به سعاده منذ تأسيس حزبه بقوله: «إنّ حزبكم قد افتتح عهد البطولة الشعبية الواعية، المؤمنة المنظمة في أمّتكم. فإنّ عهدكم هو عهد البطولة فلا تتخلوا عن طريق البطولة ولا تركنوا إلى طريق المساومة الغرارة».2
لقد أسّس سعاده مدرسة العز والبطولات وأضرمَ في صدور القوميين الإجتماعيين نار الإيمان البطولي ودعاهم إلى اعتماد البطولة المناقبية سلاحاً وحيداً في معركة الحياة قائلاً لهم وكأنه يتحدث إلينا اليوم:
«انّ حالة أمتنا ووطننا الحاضرة لا تزال الحالة عينها التي تستدعي التوجه بالكلية إلى مزية أولية أساسية من مزايا حزبكم ونهضتكم العظيمة، أعني مزية البطولة المؤمنة. فإنّ أزمنة مليئة بالصعاب والمحن تأتي على الأمم الحية فلا يكون لها إنقاذ منها إلا بالبطولة المؤيدة بصحة العقيدة. فإذا تركت أمة ما اعتماد البطولة في الفصل في مصيرها، قررته الحوادث الجارية والإرادات الغريبة».3
«مارسوا البطولة ولا تخافوا الحرب بل خافوا الفشل».4
وفي مدرسة العز والبطولات، تعلَّمَ القوميون الاجتماعيون من زعيمهم معنى التضحية والفداء والحياة الحرة الشريفة وهو القائل: «إنّ «الحياة تعني لنا وقفة عز فقط»5، ويضيف: «الحياة لا تكون إلا في العز، أما العيش فلا يفرِّق بين العز والذل».6 وتعلَّموا ايضاً السير في طريق الحق مدركين انّ «الحق هو انتصار على الباطل في معركة إنسانية..»7 فامتشقوا سلاح البطولة في معركتهم، التي هي «معركة بين حياة جديدة وحياة قديمة، معركة بين سمو وانحطاط..»8 وساروا في طريق الصراع بكلّ ثقة وعزم وإيمان مؤمنين انّ الحياة بدون قيمتي الحق والحرية لن تكون إلا حياة الذلّ والعدم.
هذه هي مدرسة البطولات، مدرسة أنطون سعاده الذي نفخَ في الأمة روحاً وثّابة وأطلق ثورة بيضاء تريد ان تهدم جدران الجهل والتخلف والإنحطاط وتضع حداً للفتوحات ولعهود الطغيان والظلمات الحالكة… وبحركة قومية إجتماعية قاد سعاده الأمة في طريق الحرية والمجد وهو القائل:
إنّ الروح الوثابة هي التي خلقها أنطون سعاده، حين أسّس الحزب السوري القومي، وأخرج شباب الأمة من حالة الخمول والخنوع، وقادهم في طريق الحرية والمجد، وأضرم في صدورهم نار البطولة، ونفخ في الأمة الخاملة الروح الوثابة، فانكشف الحزب السوري القومي عن بطولة وجرأة ورباطة جأش وفضائل النظام والقوة والمبادئ، فكان النور الذي جلب اليقظة وكان من نعم اليقظة أنّ الأمة تنبهت لوجودها..9
هذه هي مدرسة الصراع، مدرسة أنطون سعاده الذي عَلَّمَ البطولة وجَسًّدها في وقفة عز لا مثيل لها. ومنذ تأسيس هذه المدرسة الصراعية التي تُخرِّجُ المصارعين الأبطال الرافضين للعبودية والتائقين للحرية، ارتفع مئات لا بل آلاف الشهداء الأبرار تلبية لنداء الواجب القومي.. هؤلاء الأبطال ضحّوا بأنفسهم في معارك التحرير والحرية والاستقلال دفاعاً عن شرف الأمة وكرامتها وحقوقها وعن الأرض وسيادتها مؤكدين على قول سعاده: «نحن لم نتلكّأ عن واجب لأنّ الواجب مبدأ أساسي من مبادئنا الأخلاقية ولم نتراجع عن معركة..»10 ومجسِّدين قوله: «نحن جماعة لم تفضل، لا أنا شخصياً، ولا واحداً من هذه الأمة الناشئة كلها، يوماً أن تترك عقيدتها وإيمانها وأخلاقها لتنقذ جسداً بالياً لا قيمة له».11
والحق نقول، إنه لولا هذه البطولة الاجتماعية الناهضة بالوعي القومي والمعرفة والإيمان لما كان هناك مقاومة ومقاومون في شعبنا ولما رأينا الأجساد المتفجّرة تقاوم العدو المغتصب في الجنوب اللبناني وفي فلسطين المغتصبة ولما رأينا نسور الزوبعة الأبطال يدافعون عن الكرامة القومية ويروون بدمائهم الأرض لتنبت شقائق النعمان.
هذه هي البطولة المؤمنة التي تُبعث اليوم من جديد بتعاليم النهضة القومية لتكمل سيرها إلى الأمام ولتسمو إلى القمم العالية… فهي بطولة اجتماعية مرتبطة بقيم المجتمع من خير وحق وجمال وناهضة من أجل غاية سامية وقضية قومية واضحة.. وهي بطولة واعية مُشبَّعة بالمناقب الجميلة ومؤهّلة لأنّ تكون نموذجاً كاملاً وصالحاً يكون للعالم مثالاً يُحتذى.
هذه هي البطولة المدركة المصمّمة: هي بطولة الإنسان الجديد المبدع والواثق بنفسه، الإنسان – المجتمع المحب لشعبه ووطنه والثائر على أوضاع مجتمعه الفاسدة وثقافاته الإنحطاطية العقيمة والمؤمن أنه جندي في حركة هجومية لإنقاذ مصير الأمة من الإنهيار الداخلي والأخطار الخارجية.12
هي بطولة المصارعين المؤمنين ذوي النفوس الكبيرة الذين لا يرضون إلا حياة الأحرار والتي وضعت النهضة القومية الإجتماعية على أكتافهم عبئاً كبيراً عظيماً، لأنها تعرف أنّ أكتافهم أكتاف جبابرة وسواعدهم سواعد أبطال.13
هي بطولة المؤمنين بأنهم جنود الحق والحرية «في نهضة تحارب في جميع الجبهات، لأنّ حربها هي حرب عز لهذه الأمة»14.. والمؤمنين بأنّ «الدماء التي تجري في عروقنا عينها ليست ملكنا هي وديعة الأمة فينا ومتى طلبتها وجدتها.»15
هي بطولة القوميين الإجتماعيين الذين آمنوا بزعيمهم «معلماً وهادياً للأمة..»16 وآمنوا برسالته القومية الإجتماعية التي هي رسالة إيمان جديد وأخلاق جديدة تدفعهم لرفض العيش الذليل، للدّوسِ على المثالب المنحطّة، لممارسة الفضائل الجميلة وتحقيق الإنجازات الراقية، وللسير إلى المعركة لسحق التنين الشرير سحقاً نهائياً. إنها بطولة جماعة واعية ومؤمنة إيماناً صحيحاً، جماعة لا تثنيها شدائد وصعوبات ولا تهاب الموت بل ترحب به متى كان طريقاً إلى الحياة.. جماعة عمل وقتال تعبّرُ عن إرادة الأمة وعن غايتها العظمى وتسير إلى القتال بإرادتها مؤمنة أنه «لو قضوا على مئات منا لما تمكّنوا من القضاء على الحقيقة التي تخلد بها نفوسنا ولما تمكّنوا من القضاء على بقية منا تقيم الحق وتسحق الباطل، فيكون انتصارنا أكيداً في حياتنا وبعد موتنا. لذلك نحن جماعة لا نخاف ولا نأبه للموت».17
هذه هي حقيقة القوميين الاجتماعيين: جماعة أخلاق وإيمان وجماعة صراع وقتال بطولي في سبيل وحدة الأمة وحريتها وعزّها. فالبطولة هي من الأمور المشهورة عن القوميين وصمودهم أمام الصعوبات والمحن. وقد لخص سعاده بطولات حزبه وشهدائه الأبطال الذين حاربوا بيقين «واستحقوا الخلود الصحيح»18 فأشار إلى انّ حزبه بقي «صامداً يبني، ويبني، يبني الأمة، ولا يبني أفراداً. حزب واجه قوات الاحتلال بنظام بديع، يحارب، لا يلين ولا يهادن، لا يتغير ولا يتحول، ولا يتراجع، ولا يجبن، ولا يخاف ولا يهرب. لاقى السجون، ولاقى المعتقلات، ولاقى المواقف الصعبة، فمن منكم رأى السوريين القوميين الاجتماعيين يهربون من مواجهة المسؤوليات القومية؟»19
الحق نقول، أنه بتعاليمه المناقبية، بشجاعته وإقدامه، ببطولته الهادئة الحكيمة في كثير من المواقف، وبوقفة العز في الثامن من تموز، علَّمَ سعاده – القدوة أجيال الأمة معنى الحياة السامي وعلَّمَ اعتماد البطولة المؤمنة ونهج الصراعِ لكي ينتصرَ الحقُ وينهزمَ الباطلُ لأنَ الغلبةَ في النهاية هي للمصارعين أبناءِ الحياةِ وليست للمتخاذلينَ الرافضينَ الصراعَ والمعتمدينَ نهجَ الإستسلامِ والتنازلِ عن الأرض والحقوق.
1 أنطون سعاده، الإسلام في رسالتيه: المسيحية والمحمدية،الطبعة الرابعة، بيروت، 1977، ص 87.
2 أنطون سعاده، المحاضرات العشر 1948، بيروت، 1976، ص 25.
3 المرجع ذاته، ص 24-25.
4 المرجع ذاته، ص 25.
5 سعاده في أول آذار، ص 101.
6 المرجع ذاته.
7 سعاده، النظام الجديد (15)، شباط 1951، ص 6.
8 المرجع ذاته، ص 35.
9 سعاده، رأي النهضة – قضية الأحزاب الببغائية في المجلس 2، العدد 52، 14/12/1937.
10 سعاده، النظام الجديد (15)، شباط 1951، ص 49.
11 سعاده، النظام الجديد (15)، شباط 1951، ص 48.
12 سعاده، ملحق رقم 8، خطاب الزعيم في حلب، 23/11/1948.
13 خطاب الزعيم في البقاع الأوسط، 23/04/1948، النظام الجديد، المجلد 1، العدد 3، 1/5/1948.
14 سعاده في أول آذار، ص 94.
15 سعاده في أول آذار، ص 98.
16 رسالة من الزعيم للقوميين، 10/01/1947، نشرت في نشرة عمدة الإذاعة، بيروت، المجلد العدد 1، 30/6/1947.
17 سعاده، النظام الجديد (15)، شباط 1951، ص 48.
18 سعاده، ملحق رقم 8، خطاب الزعيم في حلب، 23/11/1948.
19 المرجع ذاته.