أحاول وأنا أكتب هذه السّطور فوق منضدة عتيقة، أن أبعد عن عينيّ الدخان، فالدّوار الذي يصيبني من الدّهشة يكفي ليشوّش الرؤية. ما يشغل بالي هو أكبرُ من أسئلة لمن يسعى للكشف عن الغيب، علمًا، تنجيمًا، تأمّلاً أو تأويلاً.
“أنطون سعاده، ماذا فعلت بنا؟!”
أنطون سعاده، هذه الظاهرة الفذّة التي كاد لها أبناءُ الظلمات، أفرادًا وأنظمة طائفية إقطاعيّة انتفاعيّة كانت ولم تزل ترى الأمّة أغنامًا مربحةً، تنتقي منها السّمين وتسوقه للذّبح كي تبقي بطونها وجيوبها ملأى.
أفكّرُ بالنّظام اللبنانيّ، ممثّلا بتلك الألسنة التي حرّضت على سعاده، والأيدي التي سلّمته، واقتادته إلى الإعدام فجرَ الثّامن من تمّوز، وأفكّر بتلك العقول الجحيميّة التي نحرت صدر هذا العظيم بفكره، والعظيم بوقفته، الذي أفنى شبابه من أجل قيام دولة حرّة أبيّة عزيزة قويّة. إنها الأيدي العميلة نفسها التي تمتدّ اليوم إلى الوطن وتمعن فيه تمزيقًا وتدميرًا وتهشيمًا. إنّها العقول المأجورة ذاتها التي جفّ نسغُ الكرامة فيها فكانت مطيّةً مثل دّابةٍ لا تحسنُ غير الخضوع.
يدهشني كم أنّ سعاده حاضرٌ اليوم بحلولٍ واضحةٍ لأزماتنا كلّها بلا استثناء. ويدهشني حضور روحه الصّراعيّة في ذلك الجانب المشرق من الأمّة على الرّغم من المآسي الكثيرة التي نتخبّط فيها. فأمّتنا، هذه السيّدةُ التي نُهبت ودمّرت وتراكمت في سنيها الحروب، وتعتّق في شرايينها التّعب جيلا بعد جيل، لم تزل تلد من رحم المعاناة نسورًا، يقسمون ألا يموت الواحدُ منهم ميتةً عاديّة، أو خارج ساحات القتال ضدّ أعداء الأمّة ومغتصبي أرضها. تلد للحياة أبناء تليقُ بهم الحياة.
أنطون سعاده، ماذا فعلت بنا؟! وُلدنا، بعد أن تعمّدنا بطهرِ دماك، نقف معك، وتقفُ فينا، نواجه دبّابات العالم، رياحَه وسمومه، ونستيقظُ في وطن يُهدّدُ كلّ يوم بصوتِ طائرةٍ حربيّة، وبصوت مدفعٍ ورصاصة. يُهدَّدُ بألف نظام عالميّ وعربيّ يفتح فاه ليقضم من خبزنا وأرضنا المزيد المزيد. نقفُ معك ونحيا معك، في زمن نتجرّع فيه الوجع ممزوجًا بزرنيخ القرن الحادي والعشرين. نقف معك ونحيا معك، ونمدُّ أيدينا المضرّجة بالعزّ إلى أبناء شعبنا، وكثيرون يردّونها غيرَ ممنونين، بل مع أشواك مسمومة وكثيرة. ماذا فعلت بنا؟! ففي اللحظة التي يتسرّب فيها التأفّف إلى نفوسنا، نراك شامخًا بابتسامتك المعهودة التي لم تبارح ثغرك، حتى إلى عمود الاغتيال، تذكّرنا بأنّ طريقنا طويل وشاقّ… “وأنّ أكتافنا أكتاف جبابرة وسواعدنا سواعدُ أبطال”.
ماذا فعلت؟ نحن لم نعُد نعرف طعم الرّاحةِ مذ عرفناك. ماذا فعلت بنا، في مجتمع لا يرى نفسه إلا طوائف وقبائل متناحرة؟ أمّا المجتمع الواحد الموحّد الذي بذلت كلّ ما لديك من أجله، فموجود حتّى السّاعة في أحاديث الصّالونات “الرّفيعة المستوى”، لا بل إنّ معظم رجال طوائفنا وعشائرنا وإقطاعنا السّياسيّ يثني على فكرك وعلى شخصك وقامتك الوطنيّة النّادرة! ووالله لو جئت ثانية لوقّعوا أنفسهم قرار الإعدام ثانية.
ماذا فعلت بنا، أيّها القائد القدوة، في وطن كثيرٌ من قادته أدنى شرفًا من اللّصوص؟!
ماذا فعلت بنا، أيّها المعلّم، في زمن صارت المعرفةُ فيه “حربقةً” سياسيّة أو فكريّة تخلط الحابل بالنّابل، وفزلكة لا تطعم شرفًا ولا عزًّا ولا طحينًا.
ماذا فعلت بنا، أيها المقاوم المقاتل الشّجاع، في بلدٍ تطول فيه ألسنةُ العمالةِ كفرًا وطنيًّا وأخلاقيًّا لا يرضى به المتخلّفون البدائيّون المتوحشون، ثمّ تلتفُّ على مكامن قوّة الأمّة وشروط انتصارها.
ماذا فعلتَ بنا، أيّها الشامخُ بتواضعه، في وقتٍ يرى فيه كلّ واحدٍ هنا أنّه “زعيم” وفي جعبته من القيلِ والقالِ جعجعةٌ تقرقعُ، لا تبقي ولا تذر.
ماذا فعلت بنا، لنكون هذه الأسنّة مرفوعة أمام الصّدور؟!
ماذا فعلت بنا، أيها العظيم، منذ تمّوز 1949، دمُكَ هذا البحر الهادرُ فينا، عيناك السّفينةُ، فكرك السّلاح…
لن نترك السلاح!
لن نترك السّلاح!
لن نترك السّلاح!